معروف ذلك المثّل: قالوا لفرعون من فرعنك؟ ولكن المصريين اليوم يكفرون بالفرعون، ومعهم العرب الآخرون يكفرون بفراعنتهم وطواغيتهم. سقط بن علي في تونس، وسيسقط مبارك في مصر، وستهتف الحناجر: اللي بعدو..
إنها البداية التي يتنبأ لها البعض أن تغيّر خارطة المنطقة.. التي تم حشوها بألف خريطة طريق.. ولم تُخرج أحداً من النفق. خرائط لم تفضِ إلإ إلى خرائط غيرها. والوقت في العالم العربي لا يسمح بإعادة قراءة كتاب “نهاية التاريخ” لمؤلفه فرانسيس فوكوياما، ليس بسبب ضيق الوقت هذه المرة، بل بسبب تركيز الجهود على الهدف المحدد، وتصويب الهتافات على الدريئة. والوقت لا يسمح حتى لتكرار بعض تلك الأفكار، التي بدت لبعض الوقت وكأنها مجرد هرطقات. ثمة فكرة جاءت في ذلك الكتاب ولا بد من التذكير بها: الديمقراطية ستحل كبديل حضاري لمختلف الأنظمة الديكتاتورية في جميع أنحاء العالم. ولكنها.. وباقتراح مغاير هذه المرة، لن تكون ديمقراطية على الطريقة الأميركية.. بل ديمقراطية الشعوب العربية. وليست الديمقراطية العراقية التي دفعت مئات العراقيين إلى ضرب تمثال صدام حسين بالأحذية. الأميركيون هدموا التمثال، والعراقيون ضربوه بأحذيتهم. في مصر.. المسألة مختلفة. المصريون هذه الأيام يضعون الإدارة الأميركية نفسها في “خانة اليك”!
ولم يعد العرب ينتظرون قطار الديمقراطية القادم من واشنطن، ولا المار في دول أميركا الجنوبية. لم يعد العرب محطة للاستراحة، أو لتفريغ الحمولات، أو للتزود بالوقود. صارت تونس مركز انطلاق، ومصر مثلها.. والحبل على الجرّار!
ولكن مالنا ولهذه الأفكار. دعونا لا نفسد الحفلة. إننا مبسوطون في هذه الأيام. مبسوطون والفرح يتدفق من قلوبنا وعيوننا وأصواتنا.
نعم. جميلون ورائعون نحن العرب. نعم.. عاطفيون وفوضويون وثرثارون وسلبيون ومتخلفون. نعم بدو غلاظ نحن، وحضر قساة، ونحب جلد أنفسنا وظهورنا بالسياط تحت شمس الظهيرة القائظة. لكن تلك الألقاب والشتائم التي اعتدنا على التراشق بها لم يعد لها مكان اليوم. اليوم نحن رائعون. ونحن الرقم الصعب، والرحى التي ستطحن الجميع، وتطحن نفسها..
ونحن راكبو الجمال الذين يعبرون إلى الحرية والديمقراطية، ونحن الذين سيزيحون الحكام من القصور الجمهورية والملكية، والذين سيزيحون المتنفذين والمستزلمين والمنتفعين في إدارات الدولة والحلقات الحزبية والمنابر الإعلامية وسدّات الجوامع و”النشطاء” في الجمعيات الخيرية والحقوقية.
ونحن الذين كانوا يقولون عنا “الناس العاديين” وهم يحللون ويتفلسفون ويتبجحون، ويسندون جباههم بأصابعهم كناية عن التفكير العميق والشطح التأملي. نعم، نحن.. الناس العاديون الذين يصنعون على مرأى العالم كله الثورات الاستثنائية، ومن الآن وطالع سنجيب في امتحانات التاريخ المدرسية عن كل الأسئلة المتعلقة بتلك الثورات إجابات صحيحة وكاملة، وسوف نحصل على العلامات الكاملة، لأننا نعرف كل شيء. لن يعود درس التاريخ بعد اليوم ثقيلاً ومزوراً ومملاً، ولن نضطر بعد الآن.. لحفظ مئات الصحفات عن “الثورات” الحزبية المزيفة التي خطط لها الجنرالات وأشباههم، والإيديولوجيون وأتباعهم، وبعدها ذهبنا إلى الامتحانات.. وأجبنا على الأسئلة المتعلقة بتلك الثورات، عن طريق الغش والنقل والتذكر المضني.
ولم نعد بحاجة إلى قراءة الكتب والمقالات المترجمة وجمع المعلومات واستلهام الثورة الفرنسية ولا الثورة البلشفية. صار عنا ثورات إلنا. من صنعنا. وعلى طريقتنا. وهي ثورات أجمل. التاريخ الذي يعيد نفسه.. هو خبيث أيضاً ولديه حس الفكاهة. ومن يعرف.. قد يجيئ الوقت الذي سيقرأ فيه طلاب المدارس في فرنسا وروسيا عن ثوراتنا ويذهبون بعدها إلى امتحانات.. مادة التاريخ!
Leave a Reply