سوف يذكر التاريخ أن شعب مصر العظيم الذي أنجب أحمد عرابي وجمال عبد الناصر قد قام بثورة حقيقية حضارية من أنصع ثورات هذا العصر وأنظفها لأنها حطمت الصور النمطية عن العرب وحصلت من دون ضربة كف واحدة رغم إنضمام الملايين وإندساس عملاء حبيب العادلي، وزير الداخلية السابق، من المجرمين والجواسيس والمساجين القتلة بين صفوف الثوارمن أجل طعنها من الداخل ومن الخلف عبر الشرطة.
للشعب ديناميكية خاصة لا يفهمها صناع السياسة ومحللو الأحداث والتحولات خصوصاً إذا حقق هذا الشعب مقولة أن الحياة وقفة عز فقط، وشعب مصر فيه قوة قد فعلت وغيرت وجه التاريخ، كما قال أنطون سعادة.
الأسبوع الماضي، خاف الجميع على إخماد الثورة في مهدها من قبل النظام الماكر المخادع عبر ثعلبه عمر سليمان الذي هو مثل “الحية في التبن” كما يقول المثل العاملي. فقد ادعى سليمان بأنه فتح حواراً مع المعارضة المؤلفة من الأحزاب لكي يحدث شرخاً بين المتظاهرين، ثم شوهدت صوره مجتمعاً مع بعض الشباب قيل أنهم من المعارضة، لكن تبين أنه لا صلة لهم بالذين أشعلوا فتيل الثورة مثل وائل غنيم الذي أبكى الملايين ببكائه على الشهداء من رفاقه الذين كان معظمهم من الشباب، وهذا أمرٌ يبعث على الفخر بالجيل الجديد الذي كنا نعتقد أنه جيل “الإنترنت” فقط، وكان فعلاً بطلاً في كونه إنساناً عادياً وجندياً مجهولاً يرفض الأضواء والبهرجة الإعلامية عدا عن أنه من شدة حبه لبلده ترك عمله في الإمارات من أجل أن يشارك شعبه في صنع الكرامة. غنيم متزوج من أميركية مسلمة منذ عشر سنوات لكنه لم يأت لمكتب المرشدة فتحية عواضة في أميركا من أجل الحصول على “البطاقة الخضراء المؤقتة” مفضلاً إنتزاع بطاقة الحرية الحمراء الدائمة لشعبه المظلوم.
أراد سليمان وأد الثورة بعد فشل النظام في الهجوم عليها وتحجيمها من قبل شرطة “الشغب” والمساجين والبلطجية، عن طريق “خارطة تضييع الطريق” للإنتقال التدريجي للسلطة وإنشاء لجان (مقابر) قبل أن “يبق البحصة” إنه لا يعتقد أن الوقت مناسب لإنهاء قانون الطوارئ الذي استمر٣٠ عاما في مصر، ولا يعتقد أن مبارك في حاجة للاستقالة قبل انتهاء فترة حكمه في سبتمبر، عدا عن أن مصر ليست جاهزة بعد للديموقراطية!
إن نظام مبارك، بكل رموزه، يراهن على كسب الوقت متبعاً سياسة النفس الطويل النعامية على أمل أن يمل الناس لكن، كالعادة، يعيش النظام في شرنقته الخاصة بعد أن عجز وابتعد عن فهم نبض الشعب المصري ملايين السنين الضوئية وبالتالي فإنه لم يفهم أن قناعةً تكونت لدى العامة بأن لا صلح. لا تفاوض، لا إعتراف بالنظام المهترىء. فالتغيير في مصر مسألة ليست سهلة كما حدث في تونس حيث أن حتى الديكتاتور بن علي كان أشرف من مبارك بسبب هربه خوفاً من المزيد من سفك الدماء، فنظام حسني مبارك يشكل صلب النظام الرسمي “المعتدل” بمعنى ارتباطه بالمصالح الإسرائيلية. لكن الناس الذين لا يملكون شيئأً لكي يفقدوه، حتى أرواحهم بذلوها على مذبح الحرية، فإن نفسهم أطول من نفس النظام الذين يريدون إسقاطه مهما هدد عمر سليمان وأرعد وأزبد. كثير من الناس تعجبوا بعد الكشف عن ثروة مبارك، البالغة ٧٠ ملياراً، وفساده ووصوله إلى أرذل العمر بينما عائلته آمنة موجودة في لندن في أحد القصور (أما الملايين من المصريين فيعيشون في المقابر)، ومع ذلك “لا يحس على دمه” ويرحل. ذلك أن الرجل مرتبط بإتفاقات أمنية وتعهدات وصفقات وعمولات مكبلة لمستقبل الشعب المصري والإطاحة به عن طريق الثورة الشعبية سوف تترك تداعيات مزلزلة على صعيد المنطقة.
لقد اثبتت الأحداث الأخيرة أن الكلام الأميركي والأوروبي هو مجرد نفاق والغرب لا يهمه تغيير الإسم بل بقاء العنوان أي بقاء الزمرة الفاسدة من رجال النظام الآثم. كما اثبت كشف جريمة تفجير كنيسة الأقباط في الإسكندرية أن رأس النظام متورط ولو حاول تقديم وزير الداخلية السابق ككبش فداء لكن نظام اللامبارك يعمل كالمافيا حيث أن جنودها ينفذون أوامر رئيس العصابة عبر “عازل” ( buffer) ينقل الأوامر من أجل حماية الزعيم من الإدانة المباشرة.
حسني مبارك الذي كان مستعداً لإشعال فتنة طائفية وحرق مصر البهية من أجل الحفاظ على كرسي الحكم، هو المسؤول الأول عن زبانيته لأن “الثلم الأعوج من الثور الكبير” كما يقول المثل، والشعب يريد إسقاط النظام، لا إنتقال السلطة إلى أحد مرتزقته لكي يبدد منجزات الثورة.
Leave a Reply