ما يتهاوى في “جماهيرية معمر القذافي الاشتراكية العظمى” الآن هو القبضة الحديدية لـ “الزعيم الأخضر”. السلطة “الأدبية” و”الأخلاقية” سقطت منذ عشرات السنين. ليسمح لنا هذا الطاغية المصاب بجنون العظمة، القابع في هذه اللحظات في ملجئه المحصن في “باب العزيزية”، والذي خرج علينا في “اتصاله” مع القناة الفضائية الليبية بعد ظهوره الفضائي الأول ليعلن أنه شبيه ملكة بريطانيا وأن السلطة إنما هي في يد الشعب. بالفعل لقد أصبحت السلطة في يد الشعب منذ اندلاع شرارة الثورة في 17 فبراير، ولم يبق أمام هذا الشعب إلا الإجهاز على آخر بؤرة من بؤر “ملك ملوك افريقيا” غير المتوج في قلب العاصمة طرابلس.
لايمتلك الطغاة مهارة قراءة حركة التاريخ. وهم لهذا السبب ينتهون مثلما ينتهي القذافي الآن. لا أفق لتفكير الطغاة أبعد من رؤية شعبهم قطيعاً من “الجرذان” لا قيمة لأرواحهم. هم خلقوا بنظر القذافي وأشباهه ليكونوا عبيدا لدى الطاغية وعَبَدة في هيكله. كيف يمكن لدكتاتور من نوع معمر القذافي قبض على خناق السلطة، وتحكم في رقاب سبعة ملايين ليبي لأكثر من أربعة عقود، أن يفقه معنى أن ينتفض هذا الشعب ويدوس على “مقدسات” الزعيم ورمزها الأتفه كتابه الأخضر، فيسقط أصنامه في المدن والدساكر؟
كيف يمكن لمخبول يرفع قبضته معلنا أنه يجسد “مجد ليبيا” أن المجد الحقيقي لأي حاكم هو حب شعبه وحمايته له، لا استيراد المرتزقة وزجهم في أبشع عملية لذبح شعب بأكمله؟ هل قرأ معمر القذافي التاريخ؟
أو بالأحرى، أين كان معمر القذافي عندما خرج ملايين التونسيين، ثم ملايين المصريين فأسقطوا حاكمين، من الظلم لهما حقا، رغم شدة بشطهما بشعبيهما أن يقارنا بما اقترفت يدا طاغية ليبيا من جرائم موصوفة ضد شعبه وضد شعوب أخرى عربية وإسلامية وإفريقية في مسيرته السوداء منذ أن قفز الى السلطة في أول أيلول 1969؟
أغلب الظن أن هذا الطاغية، كان يقرأ في كتاب “موسوليني: أسطورة لا تريد أن تموت”. ويعب، بنهم المرعوب من تداعي الدكتاتوريات العربية من حوله، المفردات والعبارات حول الاستبداد وإلغاء الآخر. كان يمارس الذوبان الكلي في كيانات بشرية مريضة مثل أدولف هتلر وكيف يذوب، بالتالي، الكل في الفرد، في شخص الطاغية. كان القذافي قد قطع شوطا بعيدا في “الأدلجة الخضراء” للسياة والإعلام والفن والأدب وتطويع الليبيين والأفارقة لقبول ما يمليه عليهم. ربما كان يقرأ كتاب “كفاحي” للزعيم النازي أدولف هتلر الذي يختصر خطته الجهنمية لإخضاع العالم إلى مشيئته وعن مركّب نقص حق القوة، لا عن جمال معنى قوة الحق والعدالة والخير.
لكن الفارق بين طاغية ليبيا الصغير وطغاة العالم الكبار، أنهم أقاموا وزنا لشعوبهم ووضعوها فوق بني البشر، أما القذافي، فقد مارس الاحتقار للشعب الليبي فأفقره واضطهده طيلة اثنتين وأربعين عاما، ولما انتفض في وجهه لم يجد ما يتفوه به أفضل من وصفهم بـ “الجرذان” و”الجراثيم”.
.. ويحدثنا هذا الفاشستي الصغير عن سلطة الأدب والأخلاق بعد أن شعر بأن سلطة الحديد والنار والسحق والسحل ومجازر السجون والاغتيالات وإسقاط الطائرات المدنية فوق لوكربي والنيجر قد بدأت تتصدع وتتهاوى أمام الشعب الليبي الذي امتشق دمه سلاحا بوجه جبروت القوة والسلطة الغاشمة المبنية على هرم من جماجم أحرار ليبيا ومناضليها طيلة العقود الأربعة الماضية.
لن يستطيع هذا المعتوه، بعد اليوم أن يحمل خيمته الى واحات الديموقراطيات الغربية ولا إلى ساحات قصور ما تبقى من دكتاتوريات عربية لينصبها ويقيم فيها مسرحياته التهريجية عن “سلطة الشعب” وعظمة “الجماهيرية”.
لقد سقط هذا الطاغية الذي استحوذ على غضب العالم مثلما نال “دلالا” من بعض زعمائه بسبب بحيرة النفط التي تعوم فوقها ليبيا. وهو مدرك الآن حتما أن معركته اليائسة من أجل البقاء دخلت النزع الأخير في أقبية باب العزيزية.
لكن المؤلم والمعيب بحق أدعياء الديموقراطية وحقوق الشعوب في هذا الغرب المنافق، أن أيا من زعمائه لم يمتلك شجاعة القول لهذا الطاغية: “ارحل وأوقف هذه المذبحة، مثلما فعلوا مع دكتاتور مصر حسني مبارك. لم يصغوا إلى هدير نهر الدم الليبي المتدفق منذ أسبوع، واكتفوا بنداءات متأخرة وخجولة عن “الاستخدام غير المقبول للقوة”، وعن “دراسة الخيارات المختلفة” للتعامل مع هذه المذبحة المتمادية.
نعم، باتت الشعوب العربية تدرك أن نفط بعض دولها أغلى من دمائها، وأن مؤشرات بورصات نيويورك وطوكيو وباريس ولندن هي أهم من بورصة الدم الليبي التي شق مؤشرها عنان الفضاء.
كلا، ليس غبيا هذا الغرب. لكنه منافق ومخاتل، حاول إيهامنا أنه يريد لشعوب العرب ديمقراطية وعدالة، لكنه أوغل في غرز خناجر الطغيان في صدور ناسها على مر العقود.
هو غرب ميكيافيلي انتهج سياسة المراوغة والخداع والغش والدهاء والأنانية في سبيل مصالحه، دون وازع من ضمير أو مبدأ، وشعاره المضمر على مر الزمن “الغاية تبرر الوسيلة”.
كان يجب أن يسقط طاغية ليبيا الصغير عن عرشه يوم أسقطت طائرة البان أميركان فوق لوكربي الاسكوتلندية قبل 22 عاما. ولما أسقطت طائرة “يوتا” الفرنسية فوق صحراء النيجر بعدها بعام واحد.
لكنها رائحة النفط التي أزكمت أنوف القادة “المنتخبين” فغطت على رائحة دماء الضحايا ولاتزال. أعادوا الاعتبار لهذا الطاغية ومكنوه حتى يستمر تدفق النفط الى شرايين مدنهم والمال الى خزائن بنوكهم، وها هم بعدما أغرق الطاغية مدن بلاده بدم أبنائها “يبحثون” عن أفضل السبل للتعامل مع “أزمة ليبيا”. ويمضي بعضهم (أوباما) الى ”محاولة تحليل” خطاب القذافي الأخير.
يمضي الطاغية آخر ساعاته وأيامه في “حصنه الحصين” في باب العزيزية، قبل أن يصل الغضب الشعبي إليها ويدك أسوارها العالية بقبضاته العارية، لكن هذا الغرب “الحضاري” لايزال يعيش ترف النقاش و”التحليل” لمجرى أحداث الثورة الليبية، لاستنباط أنجع السبل لقطف ثمارها بالمقايضة على رأس الطاغية. لكن المأمول من أحفاد عمر المختار وسليمان باشا الباروني وعبدالنبي بلخير ورمضان السويحلي ويوسف بورحيل وخليفة بن عسكر وغيرهم من أحرار ليبيا الذين صنعوا مجدها الحقيقي، أن يعيدوا تأسيس مجد ليبيا وصياغة تاريخها الحديث الذي استباحه عقيدها الصغير ورعاته وحاضنوه من أقطاب لعبة الأمم على مدى 42 عاما.
فتحية إلى أباة ليبيا الذين يسطرون أروع ملحمة في التاريخ العربي المعاصر.
وإن نصرهم لقريب.
Leave a Reply