تبدو غريبة بعض الشيء تلك المعادلة التي تخيم بظلالها على مواقف الحكام العرب المهددين بالسقوط وعلى الإدارة الأميركية.
فهؤلاء الحكام لا يجدون ما يستر ضعفهم وهزال أنظمتهم ودكتاتورياتهم المتهالكة سوى توجيه اللوم إلى أميركا واسرائيل في محاولاتهم المستميتة للبقاء فوق عروشهم التي تهزها ثورات الشارع هزا عنيفا وتعرضها للسقوط في أي لحظة، مثلما حصل لنظامي بن علي في تونس ومبارك في مصر ثم القذافي في ليبيا.
ومن جهتها تندفع الإدارة الأميركية وراء شعار حق الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها واختيار حكامها الى التلويح بعصا. التدخل العسكري، قبل أن ينكفئ الناطقون باسمها وحلفاؤها الى الحديث عن صعوبة التدخل العسكري ومحاذيره على ضوء التجربتين المريرتين لهذا التدخل في كل من أفغانستان والعراق.
مضحكة وعارية تلك الاتهامات التي يسوقها بعض الحكام ضد واشنطن وتل أبيب بأنهما تقفان وراء انتفاضات الشوارع العربية.
وهؤلاء الحكام لطالما عززوا من قبضاتهم على ناصيات الحكم برفع الشعارات الثورية المناهضة للولايات المتحدة واسرائيل واستخدامها لشل طموحات شعوبهم في الحرية والعدالة والتنمية والمشاركة السياسية، منذ أن صعدوا الى السلطة ببرامج بندها شبه الأوحد هو مقارعة الاستعمار والاحتلال.
على أن هذه الأنظمة التي استنفدت كل شعاراتها الثورية القائمة على مكافحة الاستعمار وحفظ “الكرامة الوطنية” وجدت في خلال العقدين الأخيرين شماعة بديلة لتعليق إخفاقاتها واستبدادها في رقاب شعوبها واذلالها ونشر الفقر والأمية في صفوف الناس، هي شماعة التنظيمات الاسلامية المتطرفة التي قدّمت بدورها خدمات جليلة لهذه الانظمة عندما استعاضت عن أساليب النضال السياسي المشروعة والشاقة بأساليب ممارسة الارهاب، وغالبا ليس ضد “الكفار” وما يدعونه “الصليبيين الجدد”، بل ضد أهلهم وأوطانهم في رحلة اغتراب دموية عن واقعهم، تحت أشرعة التكفير لكل من هو وما هو مخالف لتوجهاتها.
ولقد شعر الطغاة العرب بالراحة أكثر من أي وقت مضى عندما وضعت القوة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة الأميركية، في العقد الأخير، التنظيمات الإسلامية المتطرفة، من “قاعدة” وأخواتها هدفا استراتيجيا في إطار “الحرب على الإرهاب”، وأقدمت على إعادة جدولة علاقاتها بالأنظمة العربية الهزيلة على أساس الخدمات التي تؤديها هذه الأنظمة في مجال مكافحة الإرهاب (الاسلامي).
ورأينا كيف تسابقت الأنظمة التوتاليتارية العربية في تقديم أوراق اعتمادها لأميركا والغرب على أساس التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب بعد أيلول ٢٠٠١، فأعادت بعض “المشروعية” الدولية لاستمرارها. وتحول مثلاً، زعيم “ثورة الفاتح” معمر القذافي، بقدرة قادر، من ثوري يريد تغيير العالم على هدي كتابه الأخضر إلى أحد الوكلاء الغربيين الأوفياء، بعد سقوط نظام صدام حسين في بغداد، وأمعن حسني مبارك في تشديد قبضته الأمنية على ملايين المصريين فاتحا أبواب السجون وموصداً أبواب المشاركة السياسية، ولو ببعدها الرمزي وحدها الأدنى، مثلما حصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي “حقق” فيها حزبه الحاكم سيطرة على93 بالمئة من مجلس الشعب!
ولم يكن الأمر مختلفا، بطبيعة الحال مع زين العابدين بن علي الذي يتميز عن نظيريه المصري والليبي بسرعة الهرب أمام أول موجة من غضب الشارع التونسي.
الزعيم الليبي الذي يشعر بأن بساط “الجماهير” قد سحب من تحت قدميه لم يجد ما يقوله، على مشارف الاحتفاء بذكرى إعلان “سلطة الشعب” وفيما كانت كتائبه الأمنية تدك سلطة الثوار بالمدافع والطائرات أنه “ضحية الغرب” وأن فقدانه السيطرة على ثلاثة أرباع الأرض الليبية إنما يعود الى استيقاظ خلايا القاعدة النائمة في أنحاء جماهيريته العظمى. وسمعنا كيف تبارى أركان النظام المصري قبل تنحي مبارك في إظهار “وطنية مصرية” رافضة لأي تدخل أميركي في الشأن الداخلي المصري. وها هو الرئيس اليمني الذي يرفض كل عروض المخارج المشرفة لمغادرة كرسي الحكم يعلن بما يشبه الدعوة الى الجهاد ضد الاستعمار والاحتلال أن غرفة عمليات أميركية-اسرائيلية مشتركة تدير ثورة الشعب اليمني من تل أبيب!
والحديث عن وجود “مؤامرة” خلف ما تشهده الشوارع العربية من انتفاضات بات سلاحا يمتشقه باقي الحكام المتهيبين مما شهدته عواصم ومدن عربية حتى الآن وكانت حصيلته سقوط نظامين، وسير ثالث بخطى حثيثة نحو مصير مشابه في طرابلس الغرب. لكن بعضهم كان أكثر حصافة واقل تهورا فبادر الى وضع مراهم المساهمات النقدية الطارئة في جيوب وحسابات الفقراء ومسلوبي الفرص لعل ذلك يفلح في تبريد جروح الشعوب المفتوحة والنازفة منذ عقود.
والواقع أن أولياء أمور الحكام العرب في عواصم الغرب أبدوا قدرا أكبر من الذكاء في التعامل مع مسلسل الثورات العربية الذي انطلقت شرارته من الريف التونسي فأشعلت حريقا لا يبدو أن أميركا والغرب قادران على إطفائه باستخدام تلك الأنظمة مرة أخرى، من محيط العرب الى خليجهم. هكذا لمسنا كيف أن ملك البحرين أرخى الغطاء على عضلاته وانكفأت عربات جيشه من “دوار اللؤلؤة” في المنامة، بعد “مذبحة الفجر” التي أرادها النظام الملكي الهرم بداية مبكرة لانهاء الثورة المطلبية لأغلبية البحرانيين، وتم كل ذلك بناء على تعليمات صارمة ومستعجلة من البيت الأبيض.
لكن المضحك المبكي يظل في ذلك الهروب الفضائحي لبعض الأنظمة والنخب العربية التي لم تر في انتفاضات الشعوب العربية وسقوط بعض الأنظمة حتى الآن سوى “نموذج” لما ينتظر الأنظمة الحليفة لأميركا والغرب، في تسطيح مهين ليس للذكاء العربي وحسب، بل لأعين ملايين العرب التي شاهدت عبر وسائل الاعلام والاتصال مجرى تلك الانتفاضات وشعاراتها وغياب أية أيديولوجيات سياسية عن ساحاتها غيابا تاما.
أميركا والغرب يتعاطيان مع الزلزال العربي وارتداداته بكل الحذر والعناية محاولين قطف ثمار الثورات العربية بدهاء استعماري يستعيض عن التورط العسكري المباشر بتورط إعلامي ودعم “أخلاقي” وسياسي لحركة الشارع العربي، بينما لايزال بعض حكام العرب يمارسون سياسة النعامة التي تدفن رأسها هذه الساعات في الصحراء الليبية.
والمؤسف، بل المحزن الى حد الايلام، أن مطالب الشعوب العربية بالحق في الحياة والكرامة والعدالة تجد لها صدى فيما يقدمه الغرب “المتآمر” من بدائل، أضاعها النظام العربي الرسمي الغبي ولايزال يعمل على تضييعها، عندما ألغى من مجتمعاته كل ألوان المعارضة الداخلية، وغيب مؤسسات المجتمع المدني، التي تعد صمام الأمان للاستقرار الداخلي، بل إن “فلسفة” هذا النظام قامت على رفع شعارات التخوين والانتقاص من وطنية المواطن وولائه لبلده، إن هو حاول رفع الصوت لتصويب السياسة أو التحذير من التماهي بين السياسة والأمن في المجتمعات العربية التي تحول ناسها منذ سنين طويلة الى رهائن من الأنعام في دول بوليسية رأينا كيف حولت أجهزتها الأمنية التظاهرات السلمية الى حقول رماية بالذخيرة الحية حصدت أرواح الآلاف من أبنائها حتى الآن.
ولربما كان الاجتماع الطارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة هذه المرة، واحدا من أهم الاجتماعات التي يعقدها هذا المجلس في تاريخه الحديث، لأن أعضاءه اضطروا تحت وطأة تهديد الشارع العربي لعروش رؤسائهم وملوكهم وأمرائهم، الى الاعتراف بالحقائق الجديدة التي تشهدها مجتمعاتهم على وقع الثورات المتتالية، على أمل أن توقع هذه الثورات العربية التي ستغير وجه المنطقة العربية برمتها، وقد تصل ارتداداتها إلى خارج بلاد العرب، على أجندة القمة العربية المقبلة التي قد لا تنعقد في أول دورة مؤجلة على وقع الثورات الا للتعارف بين القادة الجدد. منهم من هو جديد بالصورة وبالتفكير، ومنهم من سيكون “جديدا” بأساليب تعامله وطرائق تفكيره.
يكفي أن قمة جديدة ستفتقد الى ثلاثة من أعتى طغاتها وأحد أكثر رموزها غرابة وتعقيدا في المظهر والجوهر. تخيلوا قمة عربية بلا معمر القذافي!
Leave a Reply