لم يلتفت النائب الأميركي الجمهوري بيتر كينغ إلى ما يجري من ثورات في العالم العربي، أو هو اختار أن يتغافل عما تصنعه الشعوب العربية (المسلمة) من أمجاد، في هذا الربيع العربي الممتد منذ أوائل يناير الماضي، بطرق سلمية غير عنفية، لاستعادة كراماتها المسلوبة على أيدي أنظمة قامعة ومتسلطة، استمدت قوتها وهيمنتها من تحالفاتها التاريخية مع الادارات الأميركية جمهورية وديموقراطية على مدى العقود.
ففي حين أظهرت هذه الثورات ابتعادا غير خفي عن كل الإيديولوجيات بما فيها الإيديولوجيا الدينية (الإسلامية) المتطرفة تحديدا وكرست الوجه المدني السلمي لثوراتها المتلاحقة، يجد النائب الجمهوري المتعصب فسحة لطرح خطر التطرف الإسلامي في أوساط المسلمين الأميركيين على بساط المناقشة في إطار لجنة الأمن الداخلي التي يرأسها في مجلس النواب الأميركي.
بدءا من الخميس الماضي، شرعت لجنة الأمن الداخلي، بدعوة من النائب كينغ، في عقد جلسات لبحث “مدى التطرف في أوساط المسلمين الأميركيين”. لكن هذه الدعوة لم تكن بلا مقدمات، والأجندة الجمهورية الخاوية من أية رؤى أصيلة للتصدي للانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعصف بأميركا، اختارت اللجوء الى تقديم كبش فداء لإخفاقاتها المدوية خلال ولايتي الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش اللتين أدارت سياسة البلاد الداخلية والخارجية خلالهما حفنة من متعصبي من يسمون أنفسهم بالمحافظين الجدد.
فالرئيس المتعصب للجنة الأمن الداخلي في مجلس النواب الأميركي النائب بيتر كينغ لا يستطيع أن يغطي سماوات تعصبه البائن بقبوات الحرص على المجتمعات الاسلامية الأميركية من مخاطر استقطابها على أيدي رجال القاعدة، فهذا “الخائف” على انجراف مسلمي أميركا في تيار التطرف الاسلامي صرح في العام 2007 “ان هنالك مساجد أكثر من اللزوم في هذه البلاد”. زاعما أن الكثيرين من رواد هذه المساجد يتعاطفون مع ما يسميه “الإسلام الراديكالي”. كينغ كان أسس لمبادرته الحالية في طرح مخاطر التطرف الإسلامي في قاعة التشريع الأميركي برؤى لا تليق بالمشرعين ولا تفخر بها حتى أجهزة الاستخبارات عندما دعا، بلا حرج، الى مراقبة المساجد وروادها بحذر أكبر والعثور على سبل ملائمة لاختراقها، زاعما أن 85 بالمئة منها تخضع لسيطرة “قيادة متطرفة”. ولم يتردد كينغ في إبلاغ الاعلامي المتعصب شون هانيتي بأن “المسلمين هم عدو يعيش بين ظهرانينا”.
“يعتقد” كينغ بأن أميركا تواجه تهديدات جدية جدا بعنف إرهابي (إسلامي) لكنه لا يلتفت، وهو المشرع المفترض أن يكون ملما بجوانب “المشكلة” التي يحاول افتعالها على أرض الكونغرس، الى حقائق تدحض مزاعمه، وأبرزها الحقيقة الاحصائية المتمثلة بتقرير مستقل صدر الأسبوع الماضي عن مركز “ترايانغل للأبحاث حول الارهاب والأمن الداخلي” الذي يعمل بالتنسيق مع جامعتي “ديوك” و”نورث كارولاينا” وفيه أن 48 من أصل 120 مسلما مشتبها بتآمرهم للقيام بإرهاب داخلي، منذ اعتداءات 11 أيلول 2001 قد جرى تسليمهم الى السلطات الأميركية على أيدي مواطنيهم المسلمين، بمن فيهم أهالي بعض المشتبه فيهم، ورواد مساجد وأصدقاء فايسبوك، لم يترددوا في تحذير السلطات الأميركية من إرهابيين محتملين حتى ولو كانوا أبناءهم وأصدقاءهم.
النائب بيتر كينغ يحاول اعادة الروح الى مكارثية منقرضة بتقديم ملايين المواطنين الأميركيين بوصفهم ارهابيين محتملين، عله ومن يقفون خلف الستارة الجمهورية يتمكنون من افتعال “عدو” داخلي يدوسون سمعته مجددا في العبور الى البيت الأبيض ويستعيدون السيطرة الكاملة على المؤسسة التشريعية، بعدما افتضحت أهداف حروبهم الخارجية ومغامراتهم الفاشلة التي أدت الى المزيد من الكراهية لأميركا لدى الشعوب العربية والمسلمة، بفعل سياسات الجمهوريين المتهورة والخرقاء. ويتحدث التقرير المذكور آنفا أنه في بعض الحالات، وفي أوساط وجاليات مسلمة معينة، أقدم المواطنون الأميركيون المسلمون على الايعاز الى السلطات الأمنية حول وجود بعض المشتبه بهم في صفوفهم، ليتبين لاحقا أن هؤلاء كانوا مخبرين سريين لدى السلطات.
ولو كان النائب كينغ حريصا بالفعل، على الجاليات المسلمة الأميركية وعلى حمايتها من مخاطر التطرف لكان الأحرى به أن يكلف نفسه عناء دعوة زعماء من المنظمات الاسلامية الأميركية لطرح مخاوفه أمامها. وبما أنه يبرر خشيته من انتشار هذا التطرف الاسلامي بغياب التعاون كما يزعم بين المسلمين والأجهزة الأمنية، لأمكنه أيضا دعوة مسؤولين أمنيين لاستطلاع آرائهم حول مخاوفه هذه. لكن المسألة برمتها تبدو غير متصلة بمخاوف حقيقية لدى النائب كينغ، من اقبال المسلمين على الأفكار المتطرفة والقيام “بانقلاب” على الديموقراطية الأميركية تمهيدا لتطبيق الشريعة كما “توهمت” مرة المرشحة شارون أنغل، من نيفادا، لمجلس الشيوخ الأميركي عندما تحدثت بسذاجة فضائحية عن أن مدينة ديربورن تخضع لـ”حكم الشريعة”.
ما يحاول “إثباته” النائب كينغ لا ينطوي سوى على تخيلات وأوهام غير مؤسسة ويعوزها الكثير من الرصانة والمنطق في طرح مسألة بهذه الخطورة والحساسية. والصورة التي يحاول تعميمها في أذهان الناخبين الأميركيين هي التماهي بين الإسلام والإرهاب ومحاولة اقناعهم بأن أميركا باتت معقلا لما يسميه “الجهاديين الأشباح” الذين يتسللون، وفق زعمه الى المؤسسات الأميركية لتدميرها تمهيدا لبسط نفوذ الشريعة!
على أن تخرصات كينغ، كان لا يمكن أن تمر هكذا في أذهان الأميركيين، وفي أميركا مدن وحكام لها يعرفون الأمور بحقيقتها العارية من أية أوهام. وأفضل من يمتلك هذه المعرفة شخص مثل حاكم مدينة ديربورن جاك أورايلي الذي لم يستطع إخفاء صدمته من جهل المشرع الأميركي بأمور مسلمي أميركا، فانبرى لتسفيه مخاوفه على شاشة “سي أن أن”، واصفا تأكيدات كينغ بأنها مغالطات مفضوحة.
وأورايلي رد على سؤال الشبكة الأميركية بحقائق معاشة على مدى ثمانية عقود من تواجد العرب والمسلمين في مدينته، فوصف “المهمة الاستكشافية” التي يقوم بها كينغ في أوساط المسلمين الأميركيين بأنها مهمة تحمل نتائج مسبقة مما يشوه الحقائق ولا يليق بالقائمين عليها:
“العرب والمسلمون يشكلون 30 بالمئة من مدينتنا والعديد من شبابنا وشاباتنا هم من الجيلين الرابع والخامس الأميركيين لذا نحن لدينا منظور واضح حول ما يمثله الاسلام، لأننا نراه من خلال الأفعال والسلوكيات التي تصدر عن أبناء مدينتنا. ونلمس أنهم يريدون أن يكونوا أميركيين بالكامل وهم يؤمنون بأميركا ويريدون أن يكونوا جزءا لا يتجزأ من مجتمعنا، وهذا ما لم يفهمه أو أساء فهمه كثيرون ممن يبدون قلقا على أميركا من مسلميها”.
هكذا فند أورايلي بصدق ونزاهة المحاولات الجارية لتعزيز انتشار “الاسلاموفوبيا” في أذهان الأميركيين عبر التلاعب بعقولهم ومشاعرهم. وهذا موقف يستحق أورايلي عليه التقدير ليس فقط من مسلمي مدينته، بل من كل الأميركيين الذين يكنون احتراما للمنطق والعقل وحقائق الأمور.
فلقد حذّر أورايلي من النقاش المفتعل في أروقة مجلس النواب الأميركي عندما قال “يمكننا العثور على أناس يحذرون من أوضاع متطرفة، لكننا اذا اسسنا سياستنا على قرارات متطرفة فإننا سنرتكب الأخطاء ذاتها التي ارتكبناها في الماضي والتي انعكست سلبا على الحقوق الدستورية للناس، لأننا وضعنا أحكاما مسبقة عن نواياهم بارتكاب أفعال خاطئة لكن تجربتنا وواقع مدينتنا يقولان عكس ذلك تماما”.
ولا يبدو التهويل من خطر التطرف الاسلامي داخل أميركا الذي حمله النائب كينغ الى المؤسسة التشريعية، منفصلا عن سياق عام من محاولات يقودها متعصبون ضد الاسلام ويجري تعميم أجواء مؤيده لها. فتبعا لاستطلاع للرأي نشرته مجلة تايم مؤخرا أبدى نحو 43 بالمئة من الأميركيين نظرة سلبية حول المسلمين.
والخشية الحقيقية تكمن في أن يصل القائمون على محاولات تشويه صورة الإسلام الى وضع مسلمي أميركا أمام السؤال الظالم: كيف تثبتون لنا أنكم لا تعملون مع أعداء أميركا، وذلك على طريقة الاعلام البلطجي الذي يمثل شوت هانيتي وغلين بيك نموذجين عنه.
والحال أن نقل الاهتمام بمخاطر التطرف الاسلامي الى منصة الكونغرس وعبر لجنة الأمن الداخلي يمكن توصيفه بيسر بأنه “بلطجة تشريعية” يمارسها بلطجيو الحزب الجمهوري في محاولة يائسة لاستعادة نفوذ فقدوه بسبب تراكم سياساتهم الكارثية التي آذت أميركا بأكثر مما آذاها إرهابيو القاعدة أنفسهم.
Leave a Reply