في أواخر سبعينات القرن الماضي بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) بالتخطيط لعملية سرية واسعة للكشف عن فساد مسؤولين أميركيين، مستغلاً إحدى الصور النمطية التي صنعها الإعلام الأميركي للعرب، بوصفهم “فاسدين وأثرياء”.
نتج عن تلك العملية إدانة ستة أعضاء في الكونغرس الأميركي ومسؤولين آخرين بعد توريطهم برشى وتواطؤ مع “شيخ” عربي فاسد (وهمي) ادعى أنه يريد اللجوء السياسي وتهريب أمواله الى الولايات المتحدة واستثمارها.
كان للكشف عن هذه العملية أثر كبير على السناتور العربي الأميركي جيمس أبو رزق الذي اعتبر انها “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”، في ظل إمعان الإعلام في تشويه صورة العرب لصالح دفع المجتمع الأميركي للانحياز لإسرائيل في الصراع الدائر في الشرق الأوسط.
أمام ذلك، بادر أبو رزق في العام ١٩٨٠، وبعد قراره عدم الترشح لمجلس الشيوخ الأميركي لولاية جديدة عن ساوث داكوتا، الى جمع ٦٠ شخصية عربية أميركية بارزة ليؤسس “اللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز” (أي دي سي).
ولم يقتصر دور أبور رزق، الذي كان أول سناتور عربي في مجلس الشيوخ الأميركي، على التأسيس، بل خاض في رئاسة “أي دي سي” معارك واسعة على المستوى الوطني، في محاربة “الصورة النمطية” للعرب والدفاع عن الحريات والحقوق المدنية العربية، إضافة الى دعوة الإدارات الأميركية المتعاقبة الى أخذ مواقف عادلة من الصراع العربي-الإسرائيلي.
انطلاقة “أي دي سي” الفعلية كانت عام ١٩٨٢ حين قامت اللجنة بتنظيم تظاهرات وحركات احتجاجية واسعة ضد الغزو الإسرائيلي للبنان الأمر الذي أكسبها وزناً على الساحة الأميركية وثقة في صفوف العرب الأميركيين، الذين أصبح لديهم أول مؤسسة شاملة في الولايات المتحدة تتحدث باسمهم وتدافع عن قضاياهم.
لكن “أي دي سي” لم تتأخر في دفع ثمن مواقفها، وتعرضت مكاتبها للاعتداء، فقد تم تفجير مكتبها في بوسطن وحرق مكتبها في واشنطن عام ١٩٨٥، كما تم اغتيال المدير الإقليمي للغرب الأميركي في “اللجنة”، الشاعر والمحاضر أليكس عودة، بعبوة ناسفة انفجرت به عندما فتح باب مكتبه في مدينة سانتا آنا في كاليفورنيا، وتم لاحقا تهريب المشتبه بهم، وهم من ميليشيا “عصبة الدفاع اليهودي” الى إسرائيل.
وفي العام ١٩٩٠ ، ومع اندلاع “حرب الخليج” ضد صدام حسين تعرضت “أي دي سي”، التي عارضت الحرب، والجاليات العربية الى حملة إرهاب جديدة، فتم اقتراف أكثر من ١٠٠ جريمة كراهية، أبرزها حرق مطعم في منطقة ديترويت وزرع عبوة ناسفة في مسجد في مدينة سان دييغو.
لم تقتصر آثار المعارك التي خاضتها “أي دي سي” للدفاع عن العرب الأميركيين بعد أول عقد من تأسيسها على الاغتيال والاعتداءات المتكررة، فقد دفعت “اللجنة” وجيمس أبو رزق ثمن مواقفها بوقف التمويل العربي (الخليجي بشكل خاص) بسبب معارضة “حرب الخليج” رغم رفضها لغزو الكويت، فعانت “أي دي سي” نقصاً في التمويل لكنها كسبت مصداقية واسعة بين العرب الأميركيين.
ومع خروج أبو رزق من موقع القيادة توالى ستة رؤساء على ”أي دي سي” هم: عابدين جبارة، ألبرت مخيبر، هالة مقصود، د. زياد عسلي، ماري روز عوكر، وحالياً سارة نجار ويلسون.
وتمكنت “أي دي سي” عبر السنوات من فتح حوالي ٥٠ فرعاً في ٢٤ ولاية أميركية (معظمها صوري في الوقت الراهن)، إلا أنها عانت من ضيق مالي تفاقم عبر السنوات أضعف مكانتها وقدرتها في الدفاع عن حقوق العرب الأميركيين وقضاياهم، في وقت هم بأمسّ الحاجة فيه لذلك، لاسيما بعد هجمات “١١ أيلول” عام ٢٠٠١.
“النهج الناعم”.. وفقدان الثقة
ولم تقتصر أزمة “أي دي سي” المالية على وقف التمويل العربي بل كان سببها أيضاً فقدان ثقة العرب الأميركيين بها، فقد أدى انتهاج “اللجنة الوطنية” والفروع المنتشرة في الولايات لسياسة “المواجهة الناعمة” التي تصل الى حد المهادنة، الى هزّ ثقة العرب الأميركيين بها في ظل تعرضهم لأشد حملة اضطهاد عرفوها في الولايات المتحدة.
ويقول المدافعون عن “النهج الناعم” المتبع منذ فترة طويلة أنه الوسيلة الوحيدة لضمان استمرارية “أي دي سي” في ظل وقف الدعم المالي من العالم العربي. ويعتبرون أن “عقلية العرب الأميركيين” لا تؤمن بالتبرع المالي للعمل العام.
ولكن رافضي هذا النهج، يعتبرونه السبب في فقدان ثقة العرب الأميركيين بالمؤسسة وفروعها المنتشرة في الولايات، وبالتالي سبباً لشحّ التمويل من متمولي الجاليات العربية لها، وهي جاليات لديها الرغبة في التبرع ولكن على أسس واضحة. ويقول معارضو “النهج الناعم” أن “اللجنة” تفتقد شجاعة المواجهة التي تحتاجها القيادة الحقيقية، وأن “أي دي سي” وفروعها باتت، بالحد الأقصى، مجرد مكاتب علاقات عامة تضع في رأس سلم أولوياتها كسب رضى السلطات الفدرالية والشركات الأميركية الكبرى، لا “المواجهة” لأجل الدفاع عن الحقوق، وذلك للحفاظ على الحد الأدنى من التمويل من الشركات الأميركية، ولنيل كرسي لها في طاولات الحوار بدل أن “تحارب” لتكسبه فتكون في موقع القوة.
أمام هاتين النظرتين، لا يمكن تجاهل أن “أي دي سي” تعاني من أزمة مالية حادة، تجلت في فشل “اللجنة الوطنية” في سداد ديون رهن مركزها الرئيسي في واشنطن وعجزها عن دفع مستحقات موظفيها، منذ أشهر.
ولأزمة “أي دي سي” الوطنية تبعاتها المباشرة على الفروع في الولايات المختلفة، ولكن ذلك لا يعفي هذه الفروع من المسؤولية.
فرع ميشيغن
في ميشيغن، حيث يوجد أكبر تجمع عربي أميركي، قام الناشط عماد حمد بإحياء فرع “أي دي سي” بعد أن عينته رئيسة “اللجنة الوطنية” الراحلة هالة مقصود في عام ١٩٩٧، ليتمكن من تفعيل دور اللجنة في الجالية العربية من جهة، وتفعيل دور الجالية على مستوى الولاية، والدفاع عن حقوقها وقضاياها من جهة أخرى.
وقد سجلت “أي دي سي-ميشيغن” نجاحات لافتة منذ انطلاقاتها رغم “العراقيل” التي واجهتها (من القريب قبل الغريب)، إلا أن وضعها اليوم لا يقل صعوبة عن وضع اللجنة الأم، وللأسباب عينها.
المؤسسات وانعدام الثقة
فمنذ هجمات “١١ أيلول” عاشت المؤسسات الكبرى في الجالية العربية في ميشيغن، على اختلافها (اجتماعية، اقتصادية، سياسية حقوقية، دينية)، هدنة بعد مناوشات و”معارك” في السنوات التي سبقت “حرصا على رص الصفوف العربية للتعاطي مع ما بعد ١١ أيلول”.
هذه الهدنة، كانت شكلية، ولم تمنع المؤسسات من خوض “معارك خفية” لم تطفُ الى السطح، إلا أنها كان لها تأثير بالغ على سير العمل المؤسساتي ضمن الجاليات العربية في ميشيغن، وتكريس “حالة الدكاكين” التي تتمثل في العرض التالي:
– المؤسسة “أ” تتخذ موقفاً معارضاً ضد سلطة محلية أو فدرالية أو شركة أميركية لأنها لم تحترم حقوق العرب الأميركيين.
– المؤسسة “ب” تذهب الى هذه السلطة المحلية أو الفدرالية أو الشركة الأميركية، وتقول لها نحن الذين نمثل العرب الأميركيين لا المؤسسة “أ”. فتُعقد الصفقة وتجني المؤسسة “ب” أرباحها على ظهر “أ” وعلى حساب الجالية.
– ومن التجربة تستفيد المؤسسة “أ”. فتهادن المعتدين على الحقوق، علها تستفيد مادياً، أو على الأقل تحرم “ب”، نكايةً.
– وهكذا دواليك…
هذا السيناريو حصل مع “أي دي سي” عندما حاولت أن تقف بالمرصاد لمصرف “كوميريكا” بعد أن قام الأخير بإغلاق حسابات لعرب أميركيين ولمؤسسة “لايف” للتنمية والإغاثة (بقيمة ١١ مليون دولار)، دون وجه حق.
وفيما كان العرب الأميركيون يتظاهرون أمام أحد فروع المصرف في منطقة ديترويت بدعوة من “أي دي سي”، كانت غرفة التجارة العربية الأميركية تعقد صفقة مع “كوميريكا”، وتعلن أن لا مشكلة بين العرب الأميركيين و”كوميريكا”، لتقبض ثمن ذلك تمويلاً مستمراً حتى اليوم.
تكرست “حالة الدكاكين”، وطغى مبدأ “عمره ما حدا يورث” وسياسة “أنا.. وبعدي الطوفان”، على عمل المؤسسات في ميشيغن، وبينها “أي دي سي”، فتردّى أداؤها، وتعززت حالة انعدام ثقة عموم الناس بالمؤسسات وأهلها.
وأدى انعدام الثقة هذا، الى انفضاض العرب الأميركيين في ميشيغن عن المؤسسات، وبالتالي صرف النظر عن دعمها ماليا (بشكل جدي). وكان لهذا الانكفاء آثار متفاوتة على المؤسسات.
– فمؤسسات مثل “أكسس” و”أي سي سي” لا تعتمد على أموال الجالية بل على التمويل الحكومي المخصص للمجتمعات، ومؤسسة مثل غرفة التجارة العربية الأميركية قائمة على مبدأ “عقد الصفقات” ولا تسعى الى أموال عامة الناس ولا دعمهم، رغم أنها تعقد الصفقات باسمهم. هذان النوعان لا يحتاجان الى دعم الجالية بل يتم تمويلها من السلطات لأنها تحمل اسم “عربي أميركي”.
– وهناك نوع آخر من المؤسسات، تأثر بشكل ملحوظ بفقدان الثقة بالعمل العام، وهي المراكز الدينية. ورغم أن هذه المؤسسات تحميها “صفتها”، التي تؤمن لها أموال “الراغبين بالجنة”، إلا أنها، بدورها، عانت وتعاني من أزمات مالية، وإن كانت بدرجة يمكن تحملها حتى الآن على ما يبدو.
– أما الضحية الأولى لفقدان الثقة بالعمل العام، هي مؤسسة كـ”أي دي سي”، التي تحتاج الى رافد التمويل من العرب الأميركيين (مع انقطاع التمويل الخارجي)، لتقوم بالمهام المنوطة بها.
طبعاً، ليست “أي دي سي-ميشيغن” مسؤولة عن انعدام ثقة الجالية بالمؤسسات وبالعمل العام، ولكنها تتحمل مسؤولية كبيرة في ذلك بسبب استسلامها لـ”سوق الدكاكين” لاسيما في الآونة الأخيرة وانخراطها به.
ولدور “أي دي سي” ومكانتها من جهة، والدرك التي وصلت اليه على المستوى الوطني والمحلي من جهة أخرى، لا بد من دق ناقوس الخطر، عندما نرى أن هذه المؤسسة التي يجب أن يعول عليها العرب الأميركيون، لاسيما في المرحلة الراهنة (قانون أريزونا للهجرة على الأبواب)، دخلت في حالة “اللامبالاة”، وانخرطت في “سوق الدكاكين”.
ولـ”سوق الدكاكين” طقوس وعادات وعقلية خاصة تتلخص بمقولة “ما حدا إلو معنا”.
وهذه العقلية ظهرت جلياً في الآونة الأخيرة.
وقد طرح الزميل طارق عبدالواحد في مقالته الأسبوعية في العدد ١٣٠٦ من “صدى الوطن”، عدة تساؤلات في إطار ساخر حول سلوك “أي دي سي”، دون رد على تساؤلاته، وتراوحت الردود بين الاحتجاج على الأسلوب وصولا الى التهجم على شخص الكاتب والتشكيك بنواياه، في محاولة للتهرب من المسؤولية.
لم يتلقّ طارق عبدالواحد رداً على تساؤلاته.. لأن المسؤول، ببساطة، لم يتوقع أن يُسأل!
يجب أن تتحلى “أي دي سي” بروح المسؤولية ورحابة الصدر، وأن تكون وفية لتاريخ ومسيرة المؤسسة التي خاضت معارك مشرفة. ويجب أن لا تزيد من انخراطها في “سوق الدكاكين” وحالة “اللامبالاة”، وعليها البحث جدياً في مدّ جسور الثقة مع الجالية (لا “البريدجز” مع السلطات الأمنية والفدرالية)، للتمكن من النهوض مجدداً، وباستقلالية تقوم على الالتزام بالدفاع عن الحريات والحقوق المدنية، التي لطالما كان خصمها الأول والطبيعي السلطات الأمنية والشركات الكبرى.
Leave a Reply