سيمر وقت قد لا يكون قصيرا قبل أن تتضح مفاعيل القرار الأممي الجديد الذي تبناه مجلس الأمن الدولي مساء الخميس 17 آذار حاملا الرقم 1973 لإجازة فرض حظر جوي على حركة الطيران فوق ليبيا.
بذلت فرنسا جهودا خارقة مع الاعضاء الدائمين وغير الدائمين في مجلس الأمن لتمرير القرار، واضطر الرئيس ساركوزي الى ايفاد وزير خارجيته آلان جوبيه الى نيويورك لمتابعة لصيقة للاتصالات والمساومات التي رافقت عملية ولادة القرار، ونجحت بالتعاون مع بريطانيا، التي لم تقل حماستها للقرار عن الحماسة الفرنسية، في تحييد العضوين الدائمين الآخرين روسيا والصين واقناعهما بالامتناع عن التصويت عوضا عن ممارسة الفيتو الذي كان من شأنه وأد الجهود الفرنسية-البريطانية برمتها.
لكن القرار الأممي يحمل من الغموض والحذر في التعاطي مع عملية فرض الحظر ما يكفي لإلقاء ظلال كثيرة من الشكوك حول جدية المجتمع الدولي في تنفيذ بنوده ومندرجاته، بما يؤدي الى الحد من القمع الدموي والوحشي الذي يمارسه نظام العقيد الليبي معمر القذافي ضد معارضيه في كل أنحاء ليبيا.
ولعل كلمات مندوبي الدول التي امتنعت عن التصويت، تسهيلا لتبني القرار لاعتبارات بدت مصلحية أكثر منها “أخلاقية” أو مبدئية، حملت من التشكيك في فُرص نجاح قرار الحظر في المدى المنظور، ما يجعله مسألة غائمة ويعتريها الغموض.
ولعل التساؤل الأكثر إثارة للحيرة يكمن في هذا الانتظار الممل الذي مارسه المجتمع الدولي حتى تسنى لنظام القذافي وكتائبه أن تقترب من معقل الثوار في بنغازي بعد استعادتها للعديد من المواقع والمدن التي خسرتها في بداية الانتفاضة المسلحة في الغرب الليبي وشرقه، ووصولها الى ابواب العاصمة طرابلس الغرب، وأن يجيء هذا القرار بعدما رسمت عملية الصراع المسلح بين النظام والمعارضة حدود النفوذ بين الشرق الليبي الخاضع للثوار والغرب الخاضع لنظام القذافي.
ربما لا يحتاج المراقب الى الاستعانة بـ”نظرية المؤامرة” للاستنتاج بأن القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة مارست نفاقا اعلاميا على مدى الشهر المنقضي على اندلاع الثورة المسلحة، حول الحرص على الشعب الليبي وحقه في التعبير عن آرائه وتحقيق تطلعاته المشروعة للتخلص من حكم ديكتاتوري قامع لتلك التطلعات على مدى العقود الأربعة الماضية.
وهذا النفاق الغربي لا يقتصر على الادارة الأميركية، بل يتعداه الى معظم القوى الغربية الحليفة للولايات المتحدة التي مارست مكيافيلية مكشوفة في تعاطيها مع الثورات التي تشهدها المنطقة انطلاقا من منطقة الشمال الافريقي العربية. فالموقف الفرنسي الرسمي، على سبيل المثال، إزاء ثورة الياسمين التونسية لم يكن مشرفا ولا يليق بشعار الثورة الفرنسية التي صدرت الحرية والديمقراطية الى العالم الغربي برمته منذ مئتي سنة، قبل أن تضطر ادارة ساركوزي الى تعديل مواقفها والتراجع عن مواقفها الداعمة لحكم الطاغية التونسي زين العابدين بن علي، والتضحية بوزيرة الخارجية، ميشيل إليو ماري وتعيين آلان جوبيه مكانها.
ومن يستمع الى كلمتي المندوبين الروسي والالماني عقب التصويت على القرار الأممي الجديد اللذين حذرا من مغبة اساءة تطبيق القرار بما يؤدي الى عكس المتوخى منه. هذا فضلا عن بعض الالتباسات التي اعترت بعض بنوده، خصوصا ما يتعلق بتنفيذ ضربات جوية ضد كتائب القذافي وربطها بالعودة الى مجلس الأمن للحصول على الضوء الأخضر للقيام بها.. يشعر بأنهما كانا يقومان بتأنيب بقية الأعضاء على اعتماد القرار!
لقد كادت نبرة الممتنعين البارزين وهم روسيا والهند وألمانيا، فضلا عن الصين التي عبرت عن قناعتها بعدم جدوى الحظر منذ تفاقم الأزمة وتمادي القذافي في عمليات الاخضاع الدموية ضد المناطق التي شهدت تمردا على حكمه.. كادت هذه النبرة أن تنعي القرار الأممي بعد ولادته مباشرة. ولم تعكس أجواء ما بعد القرار أية أصداء احتفالية في قاعة المجلس اذا ما استثنينا ذلك التعاطف الشكلي مع المندوب الليبي المنشق عن النظام عبدالرحمن شلقم.
لكن ما سلف لا يجب أن يعني أن القرار ليس ذا مغزى أو عديم التأثير على مجرى التطورات في ذلك البلد العربي الذي يهدد نظامه الدكتاتوري الغريب بإنهاء الأمل بربيع الثورات العربية في مهدها.
فهو من شأنه أن يرعى “توازن القوى” بين النظام ومعارضيه ويرسم خطا أحمر بوجه النظام يمتد من مشارف أجدابيا الى بنغازي وصولا الى الحدود المصرية في أقصى الشرق لوضع ليبيا بثراوتها (وهي مربط الفرس في مواقف الغرب) أمام معادلة جديدة: نظام ضعيف لكنه قادر على الصمود والبقاء حتى أجل، ومعارضة قوية ومسلحة لكنها قاصرة عن السيطرة التامة على مقاليد الأمور حتى أجل أيضا.
أما هذا الأجل فهو الاسم الكودي لطبيعة المصالح الحقيقية للقوى الغربية صاحبة الرغبة في الحفاظ على هذه المصالح بالتعاون مع نظام في طرابلس الغرب لا يبدو حتى الآن أنهم يطمئنون الى نوايا رموزه الجدد. فهذه القوى “خبزت” القذافي و”عجنته” كما يقول المثل اللبناني، لكنها لاتزال تنظر بعين الريبة الى رموز المعارضة المسلحة. لنتذكر أن هذه المعارضة كانت حتى أسبوع خلا تجاهر بنواياها في مقاتلة أي قوى غربية تحاول أن تطأ أقدامها الأرض الليبية..
لنتذكر أيضا أن هجوم كتائب القذافي المضاد الذي استعاد زمام المبادرة ميدانيا في بعض مناطق الشرق تزامن مع بث كم كبير من “التعفف” على ألسنة الناطقين باسم المعارضة المسلحة، إزاء قبول دعم أجنبي، يتجاوز مسألة الحظر الجوي وتنفيذ ضربات جوية ضد نظام العقيد الذي ترنح بداية الثورة لكنه استعاد توازنه في الأسبوع الأخير.
تدرك المعارضة الليبية أن القوى الغربية ليست جمعيات خيرية أو أخلاقية، لكن هذا الادراك لم يترجم سوى خلال الأيام القليلة الماضية التي أظهرت فيها قدرا من الواقعية السياسية، التي تفيد أن نطاما مثل نظام القذافي، الذي ارتكب الكثير من الجرائم الدولية الموصوفة، وفي عقر دار الغرب، لم يكن ليستمر لولا الصفقات التي فاحت منها روائح النفط والغاز الليبيين، وأن سقوطه أو اسقاطه لا يخرج عن الحسابات ذاتها التي سمحت ببقائه طيلة هذه المدة، وهي حسابات ترتبط أولا وأخيرا بالمصالح الغربية والشرقية في ليبيا.
لقد كاد المندوب الألماني في مجلس الأمن ومعه المندوب الروسي أن يصرخا بعد التصويت: وامصالحناه!
لكن الثابت أن القذافي لم يعد، ولن يعود، “إله” ليبيا بعد الآن أو “نبيها” الذي تؤرخ الأحداث فيها على تقويم اعتلائه السلطة قبل 42 عاما، مثلما هو ثابت بالمقابل أن المعارضة المسلحة ستكون مدينة بأي نصر تحرزه على نظام القذافي الى “نخوة” ساركوزي الذي هتفت باسمه جماهير بنغازي بعد صور القرار الأممي والى “حمية” ديفيد كاميرون وشجاعة باراك أوباما، معطوفة على “خذلان” الحلفاء الروس والصينيين والهنود لحليفهم الذئب الليبي الشرس، وسوقه الى قفص الترويض الدولي، حتى تقضى مصالح وتتحقق غايات. والمعارضة الليبية، خصوصا تلك التي تعيش في الخارج وتعرفنا الى وجوهها مؤخرا عبر الفضائيات فيلزمها الكثير من الصبر بقدر حاجتها الى الكثير من التواضع!
Leave a Reply