لم يشأ اللبنانيون، العلمانيون واللاطائفيون منهم على وجه الخصوص، التفرج على مسلسل الثورات العربية المندلعة حواليهم دون أن يبدوا ولو حدا أدنى من التفاعل مع هذا الحراك العربي الذي لم يشهد له مثيل منذ عقود طويلة.
لكن اللبنانيين وإن لم يبتلوا بحكام دكتاتوريين، وظل تداول السلطة في بلدهم الصغير أمرا ممكنا حتى في أحرج ظروف الحروب واللاستقرار، ابتلوا بمعضلة باتت أقرب الى النكبة وهي نظامهم الطائفي الذي يغل كل أيادي التغيير ويردها الى المربعات الطائفية الأولى بعد كل محاولة لإصلاح هذا النظام ومحاولة التأسيس لولاءات جديدة تتخطى الطائفة ورموزها الى علاقة مباشرة مع دولة ظلوا، بكل أطيافهم وانقساماتهم يطالبون بها، وينشدون لها القوة والعدل لكن طيفها ظل يبتعد عن تطلعاتهم في كل محاولة، وينتهي الأمر بـ”التسويات على الطريقة اللبنانية” التي لم تكن سوى هدنات بين حروب تنطوي وأخرى تنشب.
ومن دون التقليل من شأن المبادرات الأخيرة التي أطلقتها مجموعات شبابية على الفايسبوك والحراك الذي شهدته العاصمة اللبنانية، للمطالبة باسقاط النظام الطائفي، فإن هذه المبادرات لاتزال محاصرة بقوى طائفية عاتية ليس من السهل القفز فوق واقعها المستبد وتجاوز عوائقها الكبيرة.
يمكن هنا ملاحظة كيف أن بيروت العاصمة تظل قابلة لاحتضان طموحات الشباب اللبناني، وترداد أصداء صرخاتهم باسقاط النظام الطائفي المقيت. فهذه المدينة رغم النكبات العديدة التي أصابتها على ايدي قوى النظام الطائفي، خصوصا خلال الحرب الأهلية التي دمرت مكانتها وأعادتها القهقرى عشرات السنين الى الوراء، عادت وقامت من بين أنقاض الحروب الداخلية والإسرائيلية التي شكل الغزو الاسرائيلي عام 1982 ذروة مأساتها عندما حوصرت وقصفت على مدى أشهر قبل أن تستباح لتكون أول عاصمة عربية تدخلها قوات العدو الاسرائيلي، وقبل أن تعود وتنتفض رغم جروحها وتطلق مقاومة وطنية باسلة دحرت الاسرائيليين عنها ولتستكمل المقاومة الاسلامية، عملية تحرير الأرض اللبنانية من هذا الاحتلال على مدى عقدين من الزمن. لكن للمرء أن يلاحظ كيف تظهر المدن اللبنانية الأخرى بخلا بينا في التفاعل مع تطلعات الفئة اللاطائفية من الشباب اللبناني فتنأى مدن مثل صيدا وطرابلس وصور والنبطية وعكار وبنت جبيل وغيرها، عن تطلعات الشباب اللبناني وشعاراتهم التي تحظى بـ”اجماع لبناني” من كل الطوائف!
تاريخيا كانت تلك المدن تنقل “عدوى” الثورة الى العاصمة عبر أبنائها “المهاجرين” داخل وطنهم والذين أعطوا لبيروت ميزة الانفتاح والاحتضان لكل التطلعات الثورية القومية والوطنية والأممية. لكن بيروت هذه الأيام تبدو متعبة، ومثقلة بهموم الانقسامات الطائفية والمذهبية التي حملتها الطوائف الى ساحاتها وشوارعها بعدما “حررت” مناطقها وأقامت فوقها دويلاتها لتجعل من بيروت مرآة لذلك المشهد البشع الذي رسم لللبلد الصغير خارطة من مناطق النفوذ وخطوط التماس الطائفية والمذهبية، اين منها خطوط تماس الحرب الأهلية، رغم الصورة الخادعة التي يحاول فرسان الطوائف إشاعتها عن لبنان “السيد” و”الواحد” و”الموحد” و”القوي” و”الحرّ”.. الى ما هنالك من توصيفات باتت لا تلقى حتى الرغبة بالإصغاء اليها من معظم “الجماهير” التي جرى التلاعب بجيناتها الطائفية والمذهبية لتنقيتها وتطهيرها من أية انتماءات وطنية، خصوصا خلال السنوات، الست الماضية.
لكن تبقى المبادرات اللاطائفية التي تقودها وتنفذها مجموعات شبابية في العاصمة اللبنانية تحت شعار “إسقاط النظام الطائفي” ولو كانت حشودها خجولة مقارنة بـ”التظاهرات المليونية” لطرفي الانقسام اللبناني التي شهدها لبنان، خلال السنوات الماضية، بريق ضوء يجب أن يقوى ويسطع لينير سائر المناطق اللبنانية التي أغلقت على نفسها وتمترست خلف خوفها وهواجسها من الآخر.
وهذا الضوء اللاطائفي الذي تطفح به وجوه الشبان والشابات في مسيراتهم واعتصاماتهم في بيروت سوف يعظم ويتمدد كلما أوغل النظام الطائفي في أزمته واقترب من إعلان أفلاسه، وزاد من انتاج الأزمات التي يغرق بها البلاد. فهذا النظام بات عاجزا كليا عن انتاج الحلول ويغطي عجزه بالتراشق الكلامي بين أقطابه في مسرحية هزلية-تراجيدية أخذت تفقد الكثير من عناصر الجذب والإغراء.
والتغيير في لبنان نحو نظام لاطائفي مدني، ديمقراطي سيحصل عاجلا أو آجلا، على وقع ما يشهده المحيط العربي الأبعد والأقرب من تغييرات دراماتيكية متسارعة، سوف ترفع عن كاهل هذا البلد الصغير الكثير من الأعباء والأزمات التي ظل ما يسمى بالنظام الرسمي العربي يرمي بها فوق ساحته ويحوله الى ساحة للتنفيس عن أزماته أو تأجيل انفجارها، وهذا ما نشهد فصوله الأخيرة، قبل أن تسدل الستارة على واقع عربي يختلف جذريا عما عرفناه وعشناه وقرأنا عنه.
Leave a Reply