خلال محاضرة جامعية كان يلقيها أحد المحاميين الأميركيين في ديترويت والذي يعمل لدى جمعية محلية تعنى بشؤون المهاجرين في ولاية ميشيغن، استوقفني في كلامة عنوانين أساسيين إن مروا مرور الكرام قد لا نكون من الكرام…
مع بداية المحاضرة، استعرض المحامي الشاب المتأنق والمتألق في مجال الهجرة عدد من الإحصاءات والدراسات التي قامت بها جمعيته لتؤكد أهمية دور المهاجرين في التنمية الإقتصادية لمدينة قد تحتاج جميع مهاجرين العالم لتعود وتقف ثانية، بعد ان هجرتها الصناعات الثقيلة وخصوصا صناعة السيارات التى خلفت مساحات فارغة ملئتها الجريمة وشتى انواع العنف والمشكلات الإجتماعية. كذلك فان التعداد السكاني للعام 2010 قد أظهر إنخفاض سحيق لعدد سكان ديترويت مقارنة بالعقود السابقة.
الدراسات التي قامت بها الجمعية شملت نسبة التحصيل العلمي للمهاجرين فوجدوا ان لهؤلاء قدرات مميزة في المدارس خصوصا في الرياضيات والعلوم مقارنة بالطلاب الأميركيين، كذلك وجدوا ان ما يفوق 30 بالمئة من الطلاب المهاجرين يتقدمون لشهادتي الماجستير والدكتوراه خصوصا في تخصصات تعتبر مهمة مثل هندسة الحاسوب، تكنولوجيا المعلومات، الطب والهندسة في مختلف برامجها. يشار هنا الى أن مالك شركة “مايكروسوفت”، بيل غيتس، في فيلم “بانتظار سوبرمان” قد برر توجه شركاته الى بلدان الشرق نظرا للإمكانات العلمية الهائلة التي تمتلكها تلك الشعوب خصوصاً في مجال المعلوماتية.
كذلك شملت هذه الدراسات القدرات الإقتصادية للمهاجرين فوجدوا ان اعدادا كبيرة قد قامت بإستثمارات خاصة حيث ان ثلث هذه الإستثمارات تحقق ارباحا كبيرة تساهم في دعم إقتصاد المدينة خصوصاً لجهة تأمين الوظائف وعائدات الضرائب. كما اشارت إلى أن عدداً غير قليل من رجال الأعمال الأميركيين هم شركاء لمهاجرين يؤمنون لهم الدعم المادي الأساسي للتقدم في تجاراتهم.
كذلك فقد وجدوا في تجمع المهاجرين الذين ينتمون الى البلدان او العادات او المعتقدات نفسها في اماكن جغرافية واحدة منفعة إقتصادية كبيرة، اذ ان هؤلاء المهاجرين يُدخلون الى المجتمع تجارات جديدة خاصة بحضاراتهم وتقاليدهم كالمطاعم المتخصصة والأفران والملابس والكماليات التي قد لا تتوفر حارج نطاق مجتمعهم مما يساهم في دفع العجلة الإقتصادية المحلية. كما اشارت هذه الدراسات الى ان هؤلاء المهاجرين يبحثون عن الأراضي والمباني الرخيصة، ليطوروها ويجعلوها مصغرا لمجتماعاتهم الأصلية.
بعد إستعراض هذه الوقائع، دخل المحامي صلب الموضوع ليناقش بناء على ما سبق تأثير المجتمعات المهاجرة على الإقتصاد المحلي حيث سأكتفي بذكر واقعتين يجب التنبه لها والوقوف عندها ونحدد موقفنا منها. مع الإشارة هنا الى ان أسئلة الطلاب ومخاوفهم قد تركزت على منافسة المهاجرين للسكان المحليين في فرص العمل وتحويل الأموال الى خارج البلد.
الأولى، وهي هوية المهاجرين وحضارتهم وتقاليدهم إذ ان الباحثين قد وجدوا ان الجيل المهاجر الأول يبقى على العديد من تقاليده الأصلية وخصوصاً اللغة والعادات ونمط الحياة، لتقل مع الجيل الثاني، حيث تصبح اللغة الأصلية أقل إستعمالاً وتدخل سلوكات جديدة على المجتمع المهاجر لتندثر جميعها في الجيل الثالث والرابع كحد أقصى، فيصبح هؤلاء المهاجرون سكاناً اصليون من اصول متفرقة، وتنتقل قيمتهم الإقتصادية لتصبح جميعها محلية غير مرتبطة بجذورهم الأصلية.
أما الواقعة الثانية فهي المواقع الجغرافية التي تتوفر للمهاجرين الجدد، فتبعا لتلك الدراسات فان المهاجرين بحاجة لأن يكونوا في مجتمعات موحدة غير مشتتين، وبما ان ديترويت فيها ما يكفي من المنازل والأراضي المهجورة ما يكفي لتضم الآلاف من المهاجرين فقد تشكل هذه المواقع الجغرافية نقاط جذب للعديد منهم.
حتى الآن قد تبدو هاتان الواقعتان في إطار المقبول، او في إطار الأمور الطبيعية التي لابد منها، دون الإنتباه لآثارها على المدى البعيد.
قد تكون الحاجة للتطور والرقي والهروب من واقع مذري سبباً أساسيا للهجرة، فيكون ذاك النقص في أمور معينة كفيل ان يشتت انتباه المهاجر عن ضرورة المحافظة على هويته الأصلية، اذ ان نمط الحياة الجديد يملىء ذاك الفراغ العميق داخل النفس ويروي ذاك العطش التاريخي للشعور بالأمن والإستقرار والإحترام الإنساني عدا التحرر والفردية اللتان أكثر ما يميزان هذا المجتمع، فتصبح الهوية الأصلية وكل ما يذكر بها عبئا على حاملها من منطلق “تقاليد بالية لا تجاري العصر”. فيصبح إغتيال الهوية الفردية الأصلية للفرد سهلا على هؤلاء المهاجريين فيصبحون أميركيين أكثر من الأميركيين أنفسهم، وهنا تكثر القصص الفكاهية عن أولئك الذين هاجروا وبعدد سنون قليلة تناسوا لغتهم الأم عندما عادوا في زيارة –إن عادوا- الى بلادهم، فتجدهم ضائعين بهوية جديدة متشتتة تثري أحاديث السمر الهزلية في القرى والمدن فلا يشعرون بإنتماءهم الى أرضهم، فيصبحون غرباء في بلادهم كما هم غرباء في بلاد الإغتراب.
اما لجهة التمركز الجغرافي، فأقرب توصيف لهذه الحالة قد يكون العزل الجغرافي، اذ ان هذه المواقع الجغرافية –التي يجب ان تكون عامل جذب- هي مواقع مهجورة، تفتقر للبنى التحتية المتطورة والمرافق الحيوية كالمدارس ومراكز الإستشفاء والأسواق التي تبيع منتجات عالية الجودة وبالتالي قد لا توفر البيئة السليمة والمطلوبة لإقامة العائلات والوافدين الجدد.
بمعنى آخر، وبكلام أوضح بعيدا عن أي صفات تجميلية، هي دعوة الى سلخ مجموعة من المعانين والمعذبين في بلادهم –بكامل إرادتهم- نأتي بهم ومدخراتهم، بعد ان يكونوا غالبا قد باعوا ما يملكون في مواطنهم، نعطيهم الأماكن الأكثر فقرا وحرمانا في المدينة، نطلب منهم أن يشكلوا عامل إستقرار فيها وأن يطوروها مقابل دعم بسيط، نستفيد من كونهم مئة بالمئة مستهلكين، ننمي الإقتصاد المحلي ونملىء الجامعات والمستشفيات ومراكز التسوق، فتدور عجلة الإقتصاد بسرعة أكبر.
قد تكون هذه النظرية والى حد بعيد تشكل حالة “ربح–ربح”، أي ان الطرفين يستفيدان منها، بمعنى أن البلد المضيف يستفيد من عقولهم وطاقاتهم وبمدخراتهم كما ان المهاجر يحصل على نوعية حياة أفضل وخدمات أكثر، لكن السؤال يبقى: ماذا يحصل للهوية الأصلية؟ الن يبقى هؤلاء المهاجرين رغم كل ما قد يحققوه من إنجازات يشار اليهم بجنسياتهم وبالتالي سيبقون الى أجيال يحملون صفة مهاجر؟ وان لم ينجحوا في تحقيق تلك الطموحات التي رسموها، ألن يصبحوا مجرد مجموعة معزولة أخرى تتسلل اليها معظم الآفات الإجتماعية؟ ماذا يحدث في إقتصاد وواقع الدول المهاجر منها؟ ماذا يحصل لتلك الدول حين تغادرها “الأدمغة” والأيدي العاملة الفتية؟ وعندما تفرغ تلك الدول من روح الحياة فيها، من ينمي ويستثمر ويستفيد من الموارد الطبيعية فيها؟ هل هذا يساعد تلك الدول على أن تتقدم في مجال التنمية، كأن تكون دول عالم ثالث فنحولها الى دول عالم ثاني مثلاً؟
ليس المقصود هنا مكافحة او الحد من الهجرة، بل توفير معادلة تكون فيها العدالة الإجتماعية بجميع عناصرها متوفرة للمهاجر، لا أن يكون مجرد مستهلك يعرف برقم، لا أن يكون حراً لكن في قفص ذهبي كبير، بل أن يكون فردا فاعلاً ومشاركاً في المجتمع وليس مكمّلاً، أن يستطيع أن ينمي بلده الأم أيضا من خلال المعارف الجديدة التي يدركها ويكتسبها، أن يبقى على هويته الأصلية دون أن يشعر أنها عبئا عليه وتحول دون تقبله في المجتمع الجديد.
أكثر ما أخشاه إذا ما طبقنا هذه النظرية على العرب، أن نصبح “عرب-أميركيين” في الدلالة فقط من دون أن نحمل حقاً ثقافتنا وحضارتنا وتاريخنا العربي، فنصير “بالإسم عرب” مع ما تحمله كلمة “عربي” من دلالات سلبية لا تزيد مأساة العرب إلا عزلة وحرماناً.
Leave a Reply