إذا لم آتِ إلى الموعد، فلأنهم قنصوني من على السطح الواطئ، في الشارع الفرعي. لا.. إنني أمزح، لقد قررت عدم المجيء لأنني خائف. أنا خائف ومرتبك ولا أستطيع السيطرة على قلبي الذي يرقص من شدة الفرح والمفاجأة، يكاد قلبي يفلت من يدي، مثل بالون يفلت من يد الطفل، ويحلق عالياً. أرى دمشق من فوق. جميلة. وأشعر بلا جدوى الحرب وعبثية الكلام أكثر من أي وقت مضى. الآن أفهم.. كيف يرانا الله من فوق، جميلين، ورائعين، ويرأف بنا. وإذا كنت أريد لهذه الحال أن تنتهي، فلأنني أحب أخذ الصور التذكارية على الدبابات الوطنية، عند زوايا الشوارع..
لم آتِ. لقد اعتقلوني ووجهوا لي تهم الخيانة والعمالة. وكنت في قلبي أردد ما كتب محمد الماغوط، يوماً: سأخون وطني!. وعلى الأرجح.. لن أكتب لك قصائد عن الحب. سأغني.. لأن شعبي اخترع الأبجدية، ولأن الطريدة تتوقف حين تسمع اللحن، وتكون فرصتي الأخيرة في التصويب.
/
وسأكتب:
غنّ للسجان حتى تنهمر دموعه، ويحب عشيقتكَ ويهرّب لك السجائر والشاي والراديو، واعذره إذا امتنع عن توصيل هدايا الحبيبة، فيوماً ما سيفاخر في المضافات أنه رآك.
وغنّ له وهو في الإجازة، ليس استعطافاً غناؤك. وغنّ له حين يرزق بطفل جديد، بعد ست بنات، وغنّ له حين يقص شعره، ويستلم بدلته الجديدة.
غنّ له.. وأنت تحل مسائل الحساب لابنته الصغيرة، أو ترسم الخرائط لابنته المراهقة. وغنّ له حين يأخذ بطانيتك في الشتاء، وحين يوقظك في منتصف الليل، لتسخن له إبريق المتة، أو حين يلقي عليك النكات أمام زملائه.
/
وبيني وبين نفسي، بالغناء سأشيّع موتاي: “يا دود.. حلفتك بزاهود.. لا تاكل أبو عيون سود.. انزل على الوجنات.. وارعَ”.
/
إذا مرت هذه الأزمة على خير، سنخرج لنتفقد الأنقاض، ونتذكر البيوت التي كانت تدفئ أصحابها وتحفظ أسرارهم، وسنلقي التحية على الشرطي، ونلم فوارغ الطلقات، ونعدد الأصدقاء الذين.. سنفقدهم عما قليل، في هذا السلام الطاحن كالحرب. كالحرب تماما أو أقسى قليلا، لأن لنا أخوة في الدم والمصير والسحنات، صوبوا علينا غضبهم، ورمونا بوابل من العداوات، وبرشقات لا تحصى من “الوطنية” العمياء. لم يقيموا المتاريس ليتحصنوا ضد هتافاتنا، ولكنهم سيّروا المدرعات وأطلقوا خلفنا كلاب الأثر. خرجوا كالمجانين يتعقبون روائحنا واحداً واحداً. وأذكر كنت تقولين لي: لعرقكَ رائحة الكينا. وكنت أرد ضاحكاً: الحمد لله.. أنك لم تشمي فيّ رائحة الآس. الكينا رائحة أطفال في الأقمطة، والآس رائحة موتى في الأضرحة. ولكنني أموت فيك. أموت في حبك!
على الأرجح لن تكتمل قصتنا. لن تذهب إلى نهايتها السعيدة كما في الأفلام السينمائية، حيث قبلة عميقة تتوج الفيلم والمتفرجون في الصالة المظلمة يعضّون قلويهم من شدة التأثر. لن تكتمل كما ينبغي، ولكن قد يصاب الأصدقاء بالإحباط. سيذهب كل منا في طريقه، لأن الوطن لم يعد على ما يرام. ونحن أيضاً لم نعد كما كنّا. نعم.. لقد تغيرنا، وأخذتنا الطرقات الغريبة إلى الأزقة الضيقة، أو ربما إلى المطارات الباردة. وربما ننسى ألبومات الصور في أماكن غامضة. نسيت ولاّعتي على طاولة المقهى. نسيت هاتفي في السيارة. ونسيت مفاتيحي ثم وجدتها في يدي. نسيتكِ في المطار. لا.. لا أفكر بأي شيء. على الأرجح.. إنني أتذكر. كنا أطفالاً وكنا نسبح في البركة الموحلة كالجواميس. وكنا نتصيد العصافير بالأفخاخ، والأسماك بأصابع عزلاء. ونتجول في الكروم لنأكل ما استطال من أغصان دوالي العنب الحامضة. الناطور الطاعن في السن يصفّر علينا من بعيد، فنهرب، ونصعد إلى التلال. على حافة الجرف كنا أطفالاً نتبارى.. بصنع أعلى قنطرة، خلال التبول..
Leave a Reply