لم يفاجأ القس المتعصب تيري جونز، على الأرجح، وهو ينتقل من مطار ديترويت الى قاعة محكمة ديربورن بالمواكبة الأمنية من شرطة الولاية وعناصر الـ”أف بي آي. لم تعترض موكبه حواجز لـ”طالبان” ولم تنفجر فيه قنابل موقوتة على جانبي الـ”فري واي” من صنع إيراني!
وصل بالسلامة إلى قاعة المحكمة ومثل في جلسة استماع أمام قاض اسمه مارك سومرز وخاطبه بانكليزية خالية من أية لكنة.
تيري جونز رفض وضع كفالة مالية طلبتها سلطات مدينة ديربورن لتغطية نفقات أمن مواطنيها وممتلكاتهم وحمايته شخصياً، وقد تكون أسباب رفضه على علاقة بـ”إفلاسه” أكثر مما هي مرتبطة بمبدأ.
يقال إن جونز وضع كنيسته في فلوريدا للبيع على صفحة الـ”إي باي”.
بدا الرجل متوترا بعض الشيء، رغم أنه كان محاطا بعناصر الشرطة الذين كاد أحدهم يلتصق به.
توتره ربما كان ناجما عن شعوره بالإحراج وهو يتمتع في قاعة المحكمة بكل ما هو أميركي ودستوري. كان نظره مثبتا على وجه القاضي، للبحث عما يشي بعلامات لـ”الشريعة الإسلامية”. وحدها إحدى موظفات المحكمة ربما أقلقته لأنها كانت ترتدي الحجاب، لكن عقله المبرمج على “نظام الشريعة” ليس قادرا على استيعاب أن هذه الموظفة هي مواطنة أميركية مئة بالمئة وربما تتفوق عليه بأميركيتها لو أتيح له مخاطبتها وسماعها.
من المحكمة بدأ هذا الأميركي “المشوش” باكتشاف ديربورن. هي مدينة أميركية، قال بالتأكيد في سره. لكنه لم يستوعب حتى الآن كيف يمكن لمدينة أميركية أن تحمي مواطنيها بالدستور والقانون من تعصب أمثاله. رفض وضع الكفالة واختار أن يمارس حقه بالمثول أمام “لجنة محلفين” في صبيحة اليوم التالي لتقول الكلمة الفصل دعما لقرار القاضي.
سوف يصدم جونز وهو يرى أن من بين أعضاء لجنة المحلفين سحنات عربية وسيكتئب حين يكتشف أن ثمة محجبات من بين أعضاء اللجنة. لكن هذه هي ديربورن بتنوعها السكاني والثقافي. ولن تغير من واقعها زيارته الاستفزازية وتصريحاته الوقحة.
قد يتاح لجونز الوقوف أمام المركز الاسلامي وتفريغ شحنة من تعصبه الأعمى، وقد يحرم من هذ الفرصة لأسباب دستوريةوقانونية أميركية مئة بالمئة. المسألة لا تتعلق بحرية التعبير وحسب. إنما ترتبط بمفاعيل التعبير وتداعياته على أمن وسلامة مجتمع مدني بأكمله. والقانون أو “الدستور” ينظر بعينين اثنتين لا بعين واحدة ولو أزعجت هذه الحقيقة تيري جونز ولم تنسجم مع تفكيره الأعور وتفكير أمثاله ممن يرون في ديانة الإسلام وأتباعها انتقاصا من القيم الأميركية.
لكن المسألة بمجملها تكمن في “حلم” تيري جونز باستفزاز مسلمي هذه المنطقة واستخراج سلوك ولو لفرد واحد منهم يدعم “نظريته” المزعومة عن عنف الإسلام والمسلمين وهي نظرية يشاطره فيها أميركيون مضللون كثر، للأسف.
لم يكن الإسلام والمسلمون مسؤولين عن إرهاب 11 ايلول، مثلما لم تكن المسيحية والمسيحيون مسؤولين عن ارهاب أوكلاهوما الذي مرت ذكراه السادسة عشرة قبل أيام قليلة (١٩ نيسان) بـ”هدوء” تام، وبلا أي ضجيج إعلامي يذكر!
لكن مع كل ما قيل، وعلى وجاهة اعتبار المسلمين في هذه البلاد براء من العنف والإرهاب، فإن قدرهم أن يعيشوا هذا الموسم من الحصاد المر لصورتهم في الاعلام الاميركي والغربي عموما، أن يثبتوا على الدوام مواطنيتهم وولائهم للبلد الذي اختاروه، طوعاً، وطناً ثانياً لهم. هي حقيقة مؤلمة بالتأكيد، لكن هذه الحقبة المظلمة مرت على سواهم في التاريخ الأميركي المعاصر، وتم تجاوزها، لأن أميركا تبقى بلاداً يسودها التسامح وشعبها يتعرض من حقبة الى حقبة الى امتحان لطريقة تفكيره ويثبت في كل مرة أنه رائد في التسامح وقبول الآخر بدينه وثقافته وعاداته.
اليهود واليابانيون (البوذيون) والألمان (الكاثوليك) كلهم جماعات مهاجرة مرت بما يمر به المسلمون حاليا. لكن أميركا بوصفها “أمة الأمم” ظلت قادرة على هضم وامتصاص السموم العقائدية من النوع الذي ينفثه تيري جونز في جسدها، وتحويلها الى ترياق يعزز من مناعة هذا الجسد ويبقيه سليما.
المطلوب منا كعرب ومسلمين في ديربورن، أو أي مدينة أميركية، أن ندرك خطورة ما يسعى إلى تحقيقه تيري جونز برعاية إعلامية قومية والذي يتمثل باستخراج أي سلوك عنفي ولو من فرد واحد في هذه المواجهة للإسراع الى إطلاق التعميمات وبث التنميط، بواسطة الآلة الإعلامية الجبارة التي يمتلكها بعض من يسعون إلى استفزازنا ثم إخراجنا عن سكة العقل والتفكير السليم، توطئة لإدانتنا بوصفنا جماعات تؤمن بالعنف وتمارسه سبيلا وحيدا في التخاطب كما يحاول تيري جونز ومن وراءه أن يثبتوا من خلال زيارته الاستفزازية لمدينتنا الأميركية.
وإن عملية رصد بسيطة لردود الأفعال على تصرفات تيري جونز، تظهر أن الأغلبية الغالبة من الأميركيين تنبذ هذا التعصب وثمة كثرة كاثرة من الأصوات في هذه الولاية توجهت اليه بغضب، داعية إياه أن يبقي تعصبه حيث هو في فلوريدا وأن يدع سكان ميشيغن ينعمون بحياة خلوٍ من الإثارة والإنقسامات، لأن هذا ليس من طبع غالبية الأميركيين.
نجح العرب والمسلمون في هذا المنطقة في أن يدعوا هوس جونز وتعصبه يتبددان في سماء ديربورن، وذلك بفضل تعاونهم فيما بينهم وبفضل تعاون سلطات المدينة، وعلى رأسها رئيس البلدية جاك أورايلي الذي لعب دوراً حاسماً في منع القس جونز من العبث بأمن وسمعة مدينته. نجح العرب والمسلمون لأنهم أحسنوا التصرف، وحكّموا العقل، وحيّدوا الغرائز، ونالوا دعماً وتضامناً من الأميركيين على المستويين الشعبي والرسمي، يجدر بهم أن يحسنوا تقديره من الآن وصاعداً.
Leave a Reply