تشتد الحاجة إلى الصورة لدى الفضائيات العربية، لنقل حقيقة ما يجري في بعض البؤر الملتهبة، في سوريا على وجه الخصوص. و”شاهد العيان” الذي اعتمدته المصادر الصحفية ووكالات الأنباء على الدوام، لم يعد كافياً، ولم يعد قادراً على سد نهم المتفرجين إلى رؤية الجثث والأشلاء وقنص الناس العزل. والتشكيك بـ”شاهد العيان” صار موضة دارجة، وصار الحلقة الأضغف في الخطابات الرسمية، والأخرى المؤيدة. وهكذا.. يساق الناس إلى جحيم لا مفر منه، إلى مواجهة أقدارهم البائسة بدون أن يجدوا أحداً يتعاطف معهم، ويشعر بدموعهم. وقلما يجدون أحدا يدين أو يشجب منع التصوير.
والصورة ضرورية، لأن “ليس من سمع كمن رأى”. والصورة ضرورية لأن النبي ابراهيم سأل ربه: “ربي أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن. قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”.
والصورة لا يمكن أخذها، ولا يمكن التقاطها، في الوطن، بسبب أن كل كاميرا هي أداة مشبوهة وصاحبها حاقد ومتعامل مع جهات أجنبية، والصورة نادرة.. لأن الكثيرين لا يجرؤون على الظهور فيها. والصورة لا يمكن أخذها.. حتى في الولايات المتحدة. في زيارة فريق “قناة الجزيرة” الأخيرة إلى ديربورن، لم يجرؤ السوريون الذين يعيشون في أميركا من عقود على الوقوف أمام الكاميرا والحديث إليها. بعضهم قال إنه على استعداد للمشاركة ولكن بشرط عدم ذكر الأسماء الصريحة، أو عدم إظهار الوجوه بشكل واضح.
وكثيرون رفضوا الحديث إلى كاميرا الجزيرة خشية الانتقام من أقربائهم وذويهم في الوطن. وأشقاؤنا العرب في الجاليات الأخرى.. يستغربون مثل هذا التفكير، ولكن السوريين لهم قناعاتهم الخاصة، لأن “ليس من سمع كمن رأى”، والسوريون رأوا وعاينوا وخبروا واختزنوا الرعب تحت جلودهم وفي أعماق عيونهم، وفي تهدجات أصواتهم. وهم يعرفون إلى أي مدى، وإلى أي فرع في العائلة، يصل الثأر الحكومي.
لو كانت السياقات طبيعية، لأمكن لمئات الآلاف من السوريين المغتربين في أميركا وأوروبا، ومعظمهم من أصحاب الكفاءات والشهادات الجامعية العالية، أن يستفيدوا من أجواء الحريات والديمقراطيات في البلدان التي يعيشون فيها، وأن يضخوا في هامش الحرية في سوريا بعض الحياة، ويمدوا القمقم المظلم بجرعة أوكسجين، أو بشعاع من الضوء. لكن الذي حدث، ويا للأسف، أنهم حملوا الرعب وظلام السجن من سوريا إلى بلدان العالم الأخرى، وهذا بالضبط ما يفسر إحجامهم عن النشاطات الإجتماعية والثقافية، والسياسية بطبيعة الحال. هذا هو الخوف بالماركة السورية.. خوف عابر للقارات وللأزمان.
غير أن البعض منهم، وللأمانة، أحرق مراكبه، وقرر أن يقول كلمته مهما كانت النتائج. والسبب ليس الحرية الأميركية ولا الديمقراطية.. بل شجاعة بعض السوريين في الداخل. فمنذ منتصف آذار الماضي تغير الكثير في الجالية السورية في الولايات المتحدة. الحياة انبثت في عروقهم من جديد، والضوء التمع في مآقيهم من جديد، وتغيرت نبرات أصواتهم.
ونسمع في المشاحنات التلفزيونية، من يتهم السوريين في الخارج بتحريض السوريين في الداخل، ولكن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن سوريي الداخل هم من “حرضوا” سوريي الخارج وأمدوهم بالقوة والعنفوان والشجاعة الأخلاقية، ليقولوا ما يريدون قوله، بغض النظر على سويته ومضمونه وارتفاع سقفه.
ونسمع على التلفزيونات من يخونهم ويطالبهم بالسكوت والخرس، لأن يتنعمون في بلاد العم سام، ولا يشعرون بأبناء جلدتهم الذين بالكاد يجدون.. أسباب الحياة. وتصل بهم الأمور إلى حد مطالبتهم بالعودة إلى سوريا إذا كانوا صادقين وجاهزين لتقديم التضحية. ولكن ماذا نفعل إذا كان السوريون في الداخل، لا يجرؤون على الكلام، وإذا تكلموا قتلوا أو اعتقلوا، وإذا شهد منهم شاهد (عيان) يتهم بالكذب والتزوير..وإذا حظي واحد منهم بكاميرا في أميركا لا يستطيع الوقوف قبالتها!
Leave a Reply