مثير للريبة والتساؤل، رفض الشاعر السوري أدونيس للثورات العربية التي تخرج هذه الأيام إلى الشوارع من الجوامع، ويعلن انحيازه للثورات التي تخرج من الساحات العامة والمسارح. ويتغاضى.. وهو العارف أن ساحات المدن أصبحت مكاناً لتماثيل ونصب الحكام الديكتاتوريين، وأن المسارح خاوية على عروشها، لا بسبب تراجع الطاقات الإبداعية عند العرب، بل بسبب سياسات وطنية ممنهجة عملت بضراوة على تحطيم قيم الثقافة وشروطها الإبداعية، والحريات في مقدمتها.
وأفكار أدونيس التي أصبحت شائعة ورائجة عند النخبة المثقفة، تعرف موقفه من الدين، الذي يرى فيه مجرد طاقة روحية.. لا يجب استغلالها في السياسة، لكن الثائرين في الأمصار العربية كان لهم رأي آخر، فقد رأوا أن من حقهم استثمار تلك الطاقات من أجل تحقيق مطالبهم.
منذ كتابه “الثابت والمتحول” بأجزائه الأربعة، قدم أدونيس نظرية متكاملة حول العلاقة الجدلية بين السلطة والإبداع، وبين الإبداع والتقليد، على مر العصور العربية (مع أنه صار يقلد نفسه) لكنه تجنب على الدوام انتقاد الأنظمة الحاكمة في البلدان التي ينتشر فيها قراؤه، ويدفعون ثمن كتبه، من قوتهم اليومي.
الدين فكرة حساسة لدى هذا الشاعر الثمانيني، والجامع برأيه لا يصلح مكاناً أو منصة للتعبير عن مصالح البشر، مع أنه هو نفسه يطمح إلى الوصول إلى مرتبة “ولي” على الطريقة الدينية، وقد عمد صاحب “أغاني مهيار الدمشقي” منذ سنوات إلى بناء ضريح له، في قريته، قصابين، في محافظة اللاذقية السورية.
وبناء ذلك القبر الذي يطمح صاحبه، أن يكون يوماً مزارا على شاكلة الأولياء، لا يعني سوى شيء واحد، حتى بالنسبة للكثير من قرائه، وهو أن أدونيس مات منذ زمن بعيد. ويزيد من وضوح ذلك الموت.. إعلان الشاعر الطامح بجائزة نوبل.. التوقف عن كتابة الشعر.
يعطي أدونيس الانطباع بأنه صاحب معارك كبيرة، سطحيا وعمقيا، ولكنه ويا للغرابة، لا يريد أن يكون على الجبهات. تحس به وهو يطمح إلى اكتساب مريدين وإلى قراء وليس إلى مبدعين قادرين على تجاوزه ونقده. وقصيدته التي يريد لها أن تكون كونية وعابرة للأزمان والأمكنة، فشلت إلى حد كبير أن تغطي مساحات الوطن الصغيرة. الأجوبة عنده تتكرر، فضلاً عن أنها تتبدل وفق مقتضى الحال، وعندما يفاجئه سؤال بسيط أو غبي، يصيبه الارتباك، فيرد بطريقة واحدة لا تتبدل: هذا السؤال بحد ذاته.. قصيدة!
صحيح أن أدونيس وصف أعداد السوريين المحتجين القليلة (مقارنة بأعداد المصريين واليمنيين) بالرمز، ولكنه لم يلتفت ولم يُعنَ.. بإطلاق شهادة على العصر. شهادة تنصف القتلى المدنيين والسلميين من قبل الآلة العسكرية الشرسة والهمجية.
والسبب هو أن هؤلاء المتمردين خرجوا من الجوامع، ولم ينشدوا قصائده في الساحات العامة، أوخلف الجدران يختبئون من الرصاص، غير الطائش بالمناسبة، علماً بأن هذه الحالة تستحق في أقل تقدير وقفة متأملة ودارسة لدور “الجامع” في الثقافة العربية الجديدة التي تنتج ثوراتها العظيمة بفترات وقت قياسية.
يتناسى أدونيس الضالع في التعالي أن الجامع هو الذي حفظ اللغة العربية وحفظ آدابها وعلومها، مع اعترافنا بما سببه العامل الديني بكثير من النكسات في التاريخين العربي والإسلامي، ويتغاضى صاحب “مفرد بصيغة الجمع” أن معظم المقاومات العربية عبر التاريخ، استندت بشكل كبير وملفت على المفاهيم الدينية. وأدونيس أكثر من غيره، والملحدون أكثر من غيرهم، عليهم الاعتراف بدور الدين واحترامه، ولا بأس بعد ذلك بالاختلاف معه.
صحيح أن الدين هو طريق للسلام الروحي، وطريق نجاة للمصير الإنساني، ولكن من قال إن الشعر نفسه، والفن عموما، لا يؤدي هذه الوظيفة. ومن قال إن الاستعمال السيء للشعر، من مديح مكتسب، وهجاء مكتسب، يلغي حقيقة الشعر الجوهرية النقية والصافية.
المشكلة ليست في موقف أدونيس من الثورات ومن الجوامع. المشكلة في شخص يعتبره الكثيرون قامة وشخصية عظيمة.. يدير ظهره لتطلعات أبناء شعبه الذين أثبتوا أنهم مبدئيون وشرفاء أكثر منه. وتذكروا أن أدونيس.. صاحب ذلك الموقف العنيف من الدين، نطق الشهادتين نزولا عند رغبة أحد أمراء الخليج، وبالطبع لا يخفى عليكم السبب في ذلك!..
Leave a Reply