لم يكن الرئيس الأميركي مضطرا لتوجيه خطاب رئاسي حول ما أسماه “الفصل الجديد من الدبلوماسية الأميركية” في المنطقة العربية، في منتصف يوم الخميس (12 ظهرا بتوقيت واشنطن) إلا لأن هذا التوقيت يلائم من يستهدفهم الخطاب في تونس والقاهرة وصنعاء ودمشق وطرابلس والمنامة وباقي العواصم العربية، حيث التوقيت هناك (6 و7 مساء) هو الأمثل للاستماع (ليس الاستمتاع) بالخطب السياسية التي لم تعد تعني شيئا لتلك الشعوب التي استهلت ربيع انتفاضاتها وتبدو مصممة على اتمامه والاستمتاع به، رغم الدم الكثير المسفوح في شوارع العواصم والمدن، ولكي تتفتح ورود الحرية التي “طمأننا” أمير شعرائنا أحمد شوقي قبل أكثر من نصف قرن، أن لونها أحمر ولها باب بغير الأيدي المضرجة لا يدق.
لم يعد الرئيس الأميركي، سواء أكان باراك أوباما أو من سيخلفه، يمتلك ترف رفع السماعة وإملاء المواقف والسياسات على الرؤساء المنتظرين بلهفة على الجانب الأخر من الهاتف. فهؤلاء لم يعودوا يمتلكون أزمّة شعوبهم، وانتهى عهد كان يتبجح خلاله حاكم مستبد أنه كلما سقط “شهداء” من بلدي في سبيل “القضية” التي أرفع شعارها، كلما ارتفعت مكانتي وتمكنت أسسي في الحكم.
لقد اهتزت كل العروش في “الشرق الأوسط” الذي أرادت له الإدارة الأميركية الجمهورية السابقة أن يكون “جديدا” على طريقتها وعبر وكلائها من حكام مرتهنين لقاء استمرارهم في عروشهم. ويدرك باراك أوباما وخبراء السياسات الاستراتيجية الأميركية الذين بادروا الى نصحه بالتوجه الى الشعوب العربية المنتفضة منذ أشهر على أنظمة الاستبداد والقمع والتي أنتجت انتفاضاتها حتى الآن إزالة حاكمين اثنين (في تونس ومصر) والمزيد يلي، وفق ما توقعه الرئيس أوباما نفسه في خطابه، يدرك أن الشعوب قد خرجت من قمقمها وبات مستحيلا إعادتها اليه.
ما أبعد الشبه بين الأمس واليوم! بالأمس القريب كانت شعوب المنطقة العربية برمتها مجرد أرقام في حسابات القوى العظمى، تحكم عبر مستبدين يدينون بالولاء المباشر أو المداور لتلك القوى. واليوم بات على رئيس الدولة الأقوى في العالم أن يحترم مواقيت تلك الشعوب حين يقرر مخاطبتها مقيما المقارنة بين تطلعاتها وبين تطلعات الشعب الأميركي “الذي ثار على امبراطورية استعمارية” و”رفض دفع الضرائب للملك في بوسطن” مثلما يفعلون هذه الأيام.
قبل “الربيع العربي” من كان يأبه، من قادة العالم، لمخاطبة الشعوب العربية وإبداء التأييد لتطلعاتها بالحرية والكرامة والتنمية. وما أدراك ما التنمية التي تعبد الطريق نحو الديمقراطية، التي توهم جورج دبليو بوش، وأوهم بعض السذج، بأنه سيشحنها الى العراق ومنه لتوزع في باقي البلدان! من كان يأبه لإطلاق مشروع “مارشال اقتصادي” لانتشال الشعوب العربية من حفر الفقر والتخلف على غرار ما فعلوا مع أوروبا الشرقية وثوراتها الملونة بعد سقوط الامبراطورية السوفياتية؟
كابرت أميركا ومعها حلفاؤها كثيرا قبل أن تعترف بأن الشعوب العربية تستحق حكاما أفضل مما لديها، تنتخبهم في صناديق الاقتراع وتسقطهم في الصناديق إياها. لقد قبلت أميركا على مدى عقود “نظرية” الحكام العرب بأن شعوبهم لا قبل لها بديموقراطية الغرب وبحرياته، وبأن أفضل السبل للحفاظ على مصالحها هو في إبقائهم على عروشهم لكبت الشعوب وكم أفواه الملايين بحجج زائفة وشعارات حق كان يراد بها باطل. وتراوحت بين شعارات الصراع مع العدو والتصدي “للارهاب الإسلامي” وقبله الشيوعية الملحدة، التي استهلكت من الأمة جل طاقاتها وأهدرت الكثير من كرامات شعوبها وأبقتها حبيسة الفقر والأمية والتخلف طوال تلك العقود، بلا طائل من تحرير واستعادة لحقوق سليبة أو لأرض مغتصبة. (ما خلا تجربة المقاومة اللبنانية التي حررت الأرض بفضل سواعد وارادات أبناء الوطن الذي كان ينفرد في التمتع بحرية كان يفتقدها كل العرب بسبب أنظمتهم القمعية والمستبدة).
شكرا لباراك أوباما، وإن حضر متأخرا الى “السوق العربية” ليشتري سهما في بورصة الحرية الصاعدة. لكن هذا الرئيس الذي افترضنا فيه حسن النوايا وصدق المقاصد، وهللنا نحن العرب لقدومه الى البيت الأبيض، بعد ثماني سنوات عجاف من انتهاك القيم الأميركية التي أرساها الآباء والمؤسسون لهذه البلاد العظيمة، كان عليه ألا يكرر كلاما قديما، فيما خص “السلام في الشرق الأوسط” الذي أنهى به خطاب “الربيع العربي”. عذرا أيها الرئيس “الطيب النية”، ليس الفلسطينيون والاسرائيليون هم من يقررون اذا كانوا يريدون السلام وكيفية ترسيم حدود الدولتين “اليهودية” و”الفلسطينية”. أنت تدرك، أيها الرئيس، أن دعم بلادك لغطرسة اسرائيل وتعنتها ومنحها كل أسباب القوة بلا حساب، لا يؤدي الى السلام مع شعب محتل ومحاصر وممنوع عليه امتلاك أدنى أسباب القوة.
لا يكفي أيها الرئيس، الحديث الحالم عن دولة فلسطينية “قابلة للحياة” اذا لم تشعر اسرائيل بأنكم ومؤسسة الرئاسة والكونغرس قد تحررتم من أسر الحسابات الانتخابية كل أربع سنوات وبأن التزامكم بأمنها ومستقبلها مثلما لا تتعبون من التصريح، لا يعني استباحة أمن ومستقبل الشعب الفلسطيني وقتل تطلعاته نحو الحرية والاستقلال والكرامة مثل باقي شعوب الكون. ورجاؤنا أن لا يمحو خطابك يوم الأحد القادم أمام “آيباك” الإسرائيلية كل ما ذكرته عن الدولة الفسطينية “القابلة للحياة”على تواضعه وغموضه.
ليست “دولة” أيها الرئيس تلك التي تعدون بها شعب فلسطين فيما تقوم ابنتكم “المدللة”، إسرائيل، بتسويرها بالجدران وتقطيع أوصال اراضيها بالمستوطنات وتقيم عند بواباتها معابر التفتيش. الشعب الفلسطيني، ايها الرئيس، لا يتطلع الى الخروج من سجون صغيرة في القرى والمدن والدساكر الى سجن أكبر في “الدولة” التي توعدون.
نعم أيها الرئيس “الربيع العربي” لا يزال في بداياته، وأمامه ربما سنوات، مثلما أعلنتم، لتحقيق حريته الكاملة وسيادته الناجزة وتنميته الحقيقية، لا مراهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسواها من المؤسسات التي تكرمتم بالاستعداد لتجنيدها خدمة للديمقراطية العربية الموعودة والواعدة.
لكن الشعوب العربية، أيها الرئيس، لا تحتاج الى مساعداتكم أو إلغاء جزء من ديونها المستحقة لكم، بل الى توزيع عادل لثرواتها والى توزيع عادل لمواقفكم السياسية وضغوطكم “العقوباتية” فلا يفلت منها نظام لأنه حليف لكم بالمصالح، أو لأن مطالبته بالتغيير قد ترفع أسعار النفط عندكم.
الشعوب العربية، أيها الرئيس، تصدقكم عندما تلمس أن دماء مواطنيها العزل المسفوكة بأيدي حليفتكم اسرائيل وحلفائكم من حكام العرب تعني لكم أكثر مما يعينه النفط في ممالك ومشيخات التبذير والترف. والشعوب العربية والشعب الفلسطيني يصدقونكم عندما يلمسون أنكم قد ضقتم ذرعا بـ”دلال” “الدولة اليهودية” وتنصلها المتواصل من موجبات السلام التي تدركونها جيدا. السلام الذي يقوم على العدل، لا القهر والاخضاع بين قوي متغطرس ومدعوم منكم، وضعيف لا يملك من دعمكم ودعم أسلافكم سوى الكلام المعسول والوعود الملتبسة والفارغة من أية مضامين.
وأما “الربيع العربي” أيها السيد الرئيس فلا تقلق عليه لأن طيوره خرجت من أقفاصها وزقزقة الحرية التي باتت تملأ فضاء دنيا العرب يستحيل أن تصادر أو أن تقمع بعد اليوم.
Leave a Reply