“اننا مثل اي سوري قلقون على مستقبل سوريا ونريد بذل كل الجهود، ومثل اي سوري اقول يجب ان نقود نحن (اي السوريين) هذا التغيير..”.التصريح اعلاه ليس لشخصية سورية معارضة، ولا لمسؤول من النظام السوري، بل موقف من سلسلة من المواقف ادلى بها وزير الخارجية التركي داود اوغلو في حوار تلفزيوني، مساء الجمعة الماضية، ضمن برنامج “اللعبة الكبرى” الذي يقدمه الكاتبان ابراهيم قره غول وحسني محلي من محطة “تي.في.نت”.وهذا الموقف الى جانب مواقف اخرى وردت على لسان اوغلو جاء بعد ساعات من الاتصال الهاتفي لرئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان بالرئيس السوري بشار الاسد واعلان “دعمه لاستمرار العلاقات الاستراتيجية بين البلدين”.المسؤولون الاتراك لا يتعبون من ابداء الحرص على استقرار سوريا وامنها ويؤكدون ان امن سوريا من امنهم ولن يسمحوا بانزلاق التطورات والاحتجاجات الى صدامات اهلية. بل ان اردوغان اعلن غداة اندلاع الاحتجاجات في سورية ان بلاده لن تسمح بحدوث “حماة اخرى” مهما كان الثمن.وانقرة التي استضافت لقاءً للمعارضة السورية (او ما يمكن ان يصبح معارضة منظمة) في اسطنبول قبل اسابيع قليلة، شهدت الاسبوع الماضي لقاءً ثانياً لمعارضين سوريين في مدينة انطاليا تحت اسم “المـؤتمر السوري للتغيير” الذي سيطر عليه شبح “الاخوان المسلمين” التنظيم الاقرب ايديولوجيا الى ”حزب العدالة والتنمية الاسلامية” الذي يحكم تركيا العلمانية بأساليب ديموقراطية.وتركيا التي لعبت دوراً محورياً في فك العزلة عن النظام في دمشق وعملت في السنوات الفائتة لرفع الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على الرئيس السوري ونظامه، خصوصاً في حقبة الغزو والاحتلال الاميركي للعراق، تبدو الآن على النقيض مع “الحليف السوري” وبصدد الاشراف على تنظيم معارضة النظام ووضع “خارطة طريق” امامها لاحداث “تغيير بالصدمة” وفق توصيف وزير الخارجية اوغلو في حديثه التلفزيوني الاخير.ما تطرحه انقرة على نظام الرئيس السوري هو المرادف العملي لانقلاب من داخل النظام وعليه تأمل انقرة بأن يجد الرئيس السوري الشاب الشجاعة على تنفيذه، وهو معادل سياسي لعملية تغيير الجلد والظهور بمظهر مختلف جذرياً عما عهدته سوريا في نظامها، منذ بدء حقبة حكم حزب البعث قبل نحو نصف قرن، الذي تحول تدريجاً الى نظام امني احكم قبضته على الاوضاع في سوريا والغى كل مظاهر الحياة السياسية ولو بحدودها الرمزية اذ ان حزب البعث، واجهة هذا النظام ظل “قائداً للدولة والمجتمع” وحده، لا شريك له. رغم الديكور الذي يضفيه الوجود الاسمي لـ”احزاب الجبهة التقدمية”.البعض يتساءل بحيرة ما هذا الذي دفع بأنقرة الى احتضان معارضين للحكم السوري ولأسلوبه الامني المعتمد حتى الآن، في معالجة الاحجاجات المندلعة في طول سوريا وعرضها؟ وثمة كثير ممن يشككون بقدرة النظام السوري بتركيبته الامنية الصرفة على ”تغيير جلده”، حتى لو مدت انقرة له طوق نجاة يرى وزير الخارجية التركي ذاته ان حظوظ انقاذه من الغرق باتت صعبة ومعقدة.مشكلة النظام في سوريا انه تأخر كثيراً في ادراك ان الزمن قد تغير بالفعل، وانه بات يعمل في “المنطقة الميتة” بين الاصلاح والتغيير من جهة وفرض الحل الامني من الجهة الاخرى. وهذه المعادلة باتت مستحيلة في ظل التغيرات والتطورات الدراماتيكية التي تعصف بالمنطقة العربية والتي اطاحت حتى الآن بنظامين امنيين صلبين في تونس ومصر.النظام السوري وقع في فخ سوء التقدير لزخم الاحتجاجات التي انطلقت من درعا قبل نحو شهرين مع اعتقال بعض الصبية لكتابتهم شعارات مناهضة للنظام على الجدران، وامتدت لتشمل مختلف المناطق السورية (في الارياف خصوصاً) التي تلعب دور دينامو الثورات في العادة وتؤدي الى تآكل الحماية حول النواة المدينية الصلبة للنظام قبل ان تنخرط التجمعات المدينية في الحراك الجماهيري بعدما توقن ان شبكات مصالحها باتت عرضة للاهتزاز والخطر، كلما اظهر النظام عجزاً في السيطرة الامنية على الاوضاع وهذا ما يبدو ان النظام يواجهه حالياً بدليل استمرار الاحتجاجات رغم سقوط مئات الضحايا بسبب اعتماد الحل الامني الصرف لوأدها.واذا كان الاستقرار الامني والسياسي الذي عرفته سوريا منذ صعود الرئيس الراحل حافظ الاسد الى السلطة بفضل انقلاب “الحركة التصحيحية” الذي قاده ضد رفاقه الثوريين في الحزب في العام ١٩٧٠، قد اعتمد على الامساك باوراق خارجية لمقايضة خصومه على بقائه واستمراره، أسعفته في ذلك اجواء حرب باردة ووجود قطبين دوليين حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، إلا ان التغير الذي حدث في المناخ الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، والزلازل والعواصف السياسية والعسكرية التي تبعت، وابرزها حربا الخليج الاولى والثانية وغزو العراق واحتلاله، لم تجر قراءتها بدقة من قبل النظام في سوريا، الذي تابع مع الوريث الشاب لوالده الانخراط في تلك “اللعبة الكبرى” التي اقتضت “الضرورة”، في وقت من الاوقات، المشاركة العسكرية الى جانب قوات التحالف الاميركي الغربي في حرب اخراج صدام حسين من الكويت. غير ان هذه اللعبة لا يستقيم الانخراط فيها من قبل نظام لا يقيم اعتباراً لمشاركة شعبه في عملية صناعة القرارات المصيرية التي تتعلق بمستقبل بلده، على خلاف تركيا التي وقفت، على سبيل المثال موقفاً ممانعاً في وجه استخدام اجوائها واراضيها من قبل قوات الغزو الاميركي والغربي لجارتها العراق، رغم الود المفقود بين النظام العراقي السابق ومعظم الانظمة العربية والاسلامية في حينها.كان بمقدور تركيا ولم يزل الانخراط في “اللعبة الكبرى” اعتماداً على تفويض شعبي اتاح لحزب العدالة والتنمية الاسلامي” ان يقلم اظافر الجنرالات الاتراك ويحيدهم عن التدخل في رسم السياسات الخارجية، بفضل حسن ادائه السياسي وحساسيته تجاه “الوضع العلماني” السائد في تركيا منذ هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب الكونية الاولى، وانتقال تركيا العثمانية من الحالة الامبراطورية الفضفاضة تحت يافطة الخلافة الاسلامية الى الحالة الكيانية القومية الصرفة التي اتاحت لمصطفى كمال أتاتورك ان يعيد بناء تركيا على اسس جديدة ومختلفة كلياً.لكننا، على الضفة العربية من تاريخ الصراعات في المنطقة، وابرزها الصراع العربي الاسرائيلي، ظلت الشعوب الطامحة الى التغيير تعيش في اوطان تقع على حدود الخطر بين انظمة ادركت عبث واستحالة الاستمرار في نهج عقيم لن يضمن لها الاستمرار في السلطة (مصر مثالاً) وانظمة لا تنفك تنسج حولها “الاساطير” والبطولات الخارقة مثلما خرج علينا العقيد الليبي في استراتيجية التطهير “زنقة .. زنقة” ويجري تقليده في بلدان أخرى والذي يصر على البقاء في السلطة ولو ليحكم الجثث في المواجهة اليائسة التي يخوضها حالياً ضد “قيامة” حلف الناتو على مقره في باب العزيزية.انها اذن “اللعبة الكبرى” التي يخشى ان القيمين على ناديها قد انهوا عضوية بعض الاعضاء الصغار ممن استمرأوها وظنوا ان انظمتهم صمامات امان للكرة الارضية ليكتشفوا متأخرين ان لهذه اللعبة اصولاً لا تتوفر فيهم للاستمرار، واهمها ثقة شعوبهم وتمتعها بالحرية والقدرة على المشاركة السياسية، وانتاج قيادات بمحض اراداتها، فاذا لم تقدر خرجت الى الشوارع بصدورها العارية، مثلما هو الحال في اليمن والبحرين وسوريا، وقبله في تونس ومصر، فإذا كتمت صرخاتها وسالت دماء المحتجين في الشوارع يصير اللجوء الى السلاح خيارها وهذا اخطر ما تواجهه الانتفاضات والانظمة القامعة لها على حدّ سواء. ولان الخاسر في كل الحالات هي الاوطان التي تكون قد دمرت واهتزت ركائزها وتلاشت مقدراتها وتشرذمت مكوناتها الى امد بعيد.هي “اللعبة الكبرى” التي يحصد النظام في سوريا نتائج الانخراط في تعقيداتها التي تتطلب مناعة داخلية قبل اي “ممانعة” خارجية او شيء آخر.
Leave a Reply