لا تأتلف مدينة مع شياطينها كما تفعل بيروت. تصل مدينتك في هدأة ليل، فتجدها وكأنها خرجت للتو من معركة استنزفت نهارها. تغضن وجهها كثيراً. سدّت الكتل الخرسانية منافذ الهواء والبصر. وأهلها لم يعودوا ينتمون إليها. وجدوا صيغة بديلة للانتماء. باتوا ينتمون للحي، أو للشارع، أو للزاروب (للزنقة بحسب تعبير القذافي). هم يعتقدون –وربما يكونون صادقين– أنه كلما صغر الانتماء كلما بات أكثر حماية لهم. تحللت القواسم المشتركة بين ناس بيروت إلى مستوى الصفر. تسمع جارك يقرّع جاره؛ لأنه لم يركن سيارته بطريقة مناسبة. يشتم أخت الحكومة التي منحته رخصة السوق. وحينما يرصد على وجهك ملمح امتعاض، يرفع عقيرته بشتائم أكثر إسفافاً، ظناً منه أنه نال من حكومتك. يظن هو أن حكومته، حينما تأتي، سوف تمنع رخص القيادة عن الذين لا يعرفون قيادة السيارات بطريقته.تحار وأنت تتنقل في شوارع بيروت، هل هذه هي المدينة التي منحتها ذات عمر أفضل ما عندك وأعطتك أفضل ما عندها؟ هل هي المدينة التي سماها الرومان “أم الشرائع” بسب بناء أكبر معهد للقانون بالإمبراطورية فيها؟ هل هي المدينة التي اشتق اسمها الفينيقي من غابات الصنوبر التي كانت تحتضنها، وأصبحت الآن أثراً بعد عين؟ هل هي المدينة التي تداول عليها الغزاة والمستعمرون القدماء، ودمرتها الزلازل تسع مرات، وخاضت حروبها الصغيرة والكبيرة في العصر الحديث، لكنها ظلت مستحقة لذلك الاسم الذي أضفاه عليها نزار قباني “ست الدنيا”؟تجد نفسك مدفوعاً للمقارنة بين حال هذه “البيروت”، وتلك التي ألهمت قبلها مئات المبدعين والشعراء. بيروت نزار الذي كتب في “بريده”: “اكتب من بيروت يا صديقتي حيث المطر/ محبوبة قديمة تزورنا بعد سفر”. وبيروت درويش: “بيروت من تعب وذهب، وأندلس وشام/ فضة وزبد، وصايا الأرض في ريش الحمام”.حتى أولئك الذين تنبأوا بالانهيار، لم يفقدوا إيمانهم ببيروت. فتوفيق يوسف عواد، مثلاً، الذي شاهد ما سيجري في روايته “طواحين بيروت” (قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975)، ظل إحساسه عالياً بهذه المدينة، من دون أن يتوقع أن حروبها الكثيرة سوف تلتهمه بقذيفة عمياء. ومثله جيل من الروائيين الذين ظلت أيقونة بيروت مقدسة في كتاباتهم: “كوابيس بيروت” لغادة السمان، و”بريد بيروت” لحنان الشيخ، و”حجر الضحك” لهدى بركات، و”بيروت.. بيروت” لصنع الله إبراهيم. لكن أدونيس سوف يكون أكثر جرأة لاحقاً عندما يطعن بيروت بسؤاله: “هل تحولت بيروت إلى تابوت للجثث المتفحمة وكابوس كبير لحلم صغير؟”.لا يبين من ملامح بيروت الآن غير وصفها الجغرافي المعروف. فهي تقع على شبه جزيرة، تتجه في البحر الأبيض المتوسط ناحية الغرب. كانت تلك فيما مضى تعويذة نجاح لبيروت. أن تكون سويسرا في قلب الشرق. مدينة “كوزموبوليتانية” أو “ماركنتييلة” تنتمي إلى أي شيء ولا تنتمي إلى شيء.وفي بيروت الآن، كل شيء ولا شيء. فبيروت مدينة متزمتة بقدر ما هي متفلتة. سافرة بقدر ما هي مستترة. مكتباتها عامرة بالمؤلفات الجديدة، وحاراتها مكتظة بالغاضبين المترصدين للحظة يلعلع فيها الرصاص. صمت وصراخ. أحلام موؤودة وأخرى وليدة..… وفي الشارع القديم شاهدته، حيث تركته قبل ربع قرن. كتبه ثقلت. قصائده غير المكتملة زادت. سيجارته ما زالت متمردة على الاشتعال. ما زال مؤمناً بكل ما يقرأه وبكل ما يكتبه.. ما زال مؤمناً ببيروت حلمنا المشترك.. ذهب وترك حلمه معي.
Leave a Reply