العارفون يعلمون ان العمل في مجال الفنون، بمعناها الحقيقي، وصيغتها الصحيحة، لا بالشكل الهزيل والمعنى العليل للفنون، خصوصاً هنا في الجالية المتخمة بالمنتديات والرابطات الثقافية، هو اصعب ألوان النشاط الانساني، كما يعلمون ويعرفون جيداً ان الشعر الحقيقي هو رأس هذه الفنون، واصعبها وابعدها منالاً، لما تحويه من معاني الجمال ونبض الكلمات الرائعة التي لا تصدر إلا من اصحاب المواهب الحقيقية، ويعلمون ايضاً ان الشعراء المميزين، وعلى مدى التاريخ، يعدون على الاصابع.
لكن بما ان الدنيا “سائبة” والفوضى عارمة والادعاء طاغ والجهل باغ، وبناء على ذلك، يقرر العديدون من اهلنا ورهطنا هنا، ان يصنعوا من انفسهم شعراء. فيكتبون شعراً حديثاً، كما يسميه الغلمان و”الغلامات” العاجزون عن تركيب جملة مفيدة من مبتدأ وخبر وفعل وفاعل ومفعول به، شعراً حديثاً لا معنى ولا مبنى ولا عاطفة فيه. لا خيال ولا تصوير عن حال، بلا بداية ولا نهاية باستثناء الغموض المفتعل والهذيان الدافق.
كالتلميذ المشاكس، عندما يسأله المعلم ان لا يكرر الخطأ، ومع ذلك في كل مرة يعيد الغلطة ذاتها ليغيظ استاذه، انا اعيد الخطأ في كل مرة. اقرأ فيها شعراً حديثاً مكتوباً على صورة عمودية، من فوق الى تحت، دلالة عن ان الشاعر الحديث او “الشاعرة المودرن”، يريد ان يبرهن بالدليل القاطع ان “الحداثة” تلغي الطريقة القديمة بالكتابة افقياً، اي من اليمين الى اليسار، وأي شعرور أو زرزور، من شعاعير وزرازير هذه الايام، لا بد له من ان يكتب عمودياً، من فوق الى تحت. لكن الذي يغيظ ويقهر اكثر، هو ان يجتمع البعض من الكتاب والمفكرين والمثقفين، كما يمدحون بعضهم بعضاً، في ندوات وحلقات ثقافية لسماع ومناقشة هذه الاشعار “المبتكرة” والخالية من كل معنى ومبنى، فيعلنون ان “الشاعر فلان” او “الشاعرة فلانة” والذي كتب كلاماً على ورق تعف ان تأكله الفأرة، بأنه شاعر لا يبارى ولا يجارى حتى ولو كتب حروفاً وكلمات متقطعة “من كل وادٍ عصا”.
العجب العجاب، رأيته وسمعته في احدى الندوات الثقافية، في ديربورن، عندما سمعت باحثاً ومتذوقاً للادب، كما وصف عريف الحفل، هذا الاديب الباحث المتذوق للادب، وبعد ان شدّ حيله وهز ذيله، امسك بالميكرفون بكلتا يديه ونظر حوله نظرة الفاحص بعينه، وفتح مشفريه، معلناً ومعترفاً بالحقيقة التي لم يشأن ان يخفيها عن الحاضرين التعساء بسماعه واشفاقاً عليهم قائلاً: ان الشاعر “فلان” خربط الدنيا بأشعاره، اي هدمها واعاد بناءها من جديد!
هذا الكون “المخربط”، مثلما يقول اللبنانيون، قد يكون الشعر الحديث الركيك والرديء واحد من الأسباب المسؤولة عن لخبطته وتعاسته.
Leave a Reply