ليس ثمة من يعتقد، على الأرجح، أن النظام في دمشق الذي يواجه تحديات غير مسبوقة في تاريخه، قد ترعبه أغنية للحرية كان سيؤديها الموسيقار والمؤلف السوري العالمي مالك جندلي في المؤتمر السنوي للجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز، الأسبوع الماضي، في العاصمة الأميركية، فهذه الأغنية تمجد الحرية والشعوب الساعية لنيلها بالمطلق.
وهي تتغنى بـ”الوطن” أي وطن (عربي طبعا) وسوريا وطن عربي. هي أغنية تماهي بين الفرد والوطن الذي هو فكرة جميلة يعيشها البشر ولولاها لما كان هنالك روابط بين أهل البلد الواحد.
“وطني أنا وأنا وطني.. حبك نار في فؤادي، متى أراك يوما حرا يا وطني؟” هكذا يخاطب مطلع الأغنية وجدان كل حر في أي وطن عربي كان. لا تذكر الأغنية “سوريا” بالاسم، ولا تشير الى النظام أو الرئيس.. أو أجهزة القمع.
ومع ذلك قرر “حكماء” اللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز منع هذا المبدع السوري من أداء أغنيته الإنسانية الشاملة أمام المؤتمر بناء على دعوة وترتيبيات مسبقة.
لم أكن أدري من هو صفا رفقة. وما أعرفه الآن هو أنه رئيس مجلس أمناء “أي دي سي” وهو طبيب نسائي وأحد أكثر ثلاثة أصدقاء قرباً من السفير السوري لدى واشنطن عماد مصطفى. وهذا الأخير صديق مقرب من “الرئيس الطبيب” (ليس الرئيس السوري، بل رئيس أي دي سي العربية الأميركية) التي تعمل في مجال مكافحة التمييز العنصري، أو هذا ما نعلمه حتى تاريخ إبلاغ الموسيقار السوري أن أغنيته التي تمجد الحرية وتفاخر بمهد الحضارات الإنسانية عبر التاريخ لا مكان لها في المؤتمر. حاولوا اقناعه بأداء شيء آخر. لكنه رفض وأصر وهو يسألهم بدهشة عن منبع اعتراضهم. لم يكن لديهم أي رد منطقي ومقنع ففضلوا التمييز ضد الحرية والإنسانية على “إغضاب” السفير السوري الذي قد يفسر كلمات الأغنية بأنها موجهة ضد نظامه.
ما قام به رئيس لجنة الأي دي سي والرهط المحيط به يندى له جبين الحريات والحقوق المدنية التي وجدت الـأي دي سي للدفاع عنها.
ولو سأل هؤلاء أنفسهم ماذا لوعرضت كلمات هذه الأغنية على الرئيس بشار الأسد نفسه، واستمع الى مؤديها وهو ينشد:
“يا بلادي يا مهد البشر
نور الحضارة منها انتشر
موطن الأنبياء ومرقد الشهداء
ندعو رب السماء أن يزيل البلاء
عن بلادي وأهلي وكل البشر”
ماذا كانت ستكون ردة فعل الرئيس السوري غير القول: تعسا لكم، أمن هذه الأغنية تخافون؟
لقد وجه القيمون على أي دي سي في واشنطن إهانة الى الشعور الوطني لكل سوري، معارضا، كان أم مؤيدا للنظام. بل إنها إهانة لكل من يعتنق فكرة الحرية والعدالة التي هي في أساس تكوين هذه المنظمة العربية الأميركية على أيدي روادها الأوائل، جيمس أبو رزق وعابدين جبارة وهارولد سمحات وأليكس عودة وألبرت مخيبر وسواهم.
وللعربي الأميركي الذي تزعم الـ”أي دي سي” بتركيبتها الحالية و”أيديولوجيتها” المبتكرة في معاداة طموحات الشعوب بالحق والحرية والعدالة، تمثيل قضاياه والدفاع عنها.. لهذا العربي أن يسألها عن مبرر انعقاد مؤتمرها السنوي، أو حتى عن مسوغ استمرارها، اذا صارت تتصرف مثل الأنظمة الاستبدادية العربية التي كانت تخطب ودها في السنوات الأخيرة وتسعى الى كسب مشروعية استمرارها من فتات بعض المساعدات من دولة خليجية مارست هواية “الممانعة” لعدة سنوات، التي لم تكن تنطلي على ذوي الألباب، قبل أن تعود الى سيرتها الأولى.
لقد ارتكبت الـ”أي دي سي” خطيئة-فضيحة مجلجلة عندما ظنت أن مسايرة سفير لنظام عربي ترفع من منسوب مشروعيتها، أمام أعين ملايين العرب الأميركيين الذين صعقوا لهذا التصرف المشين والبعيد كل البعد عن السلوك الحضاري، فضلا عن مجافاته لأبسط مبادئ الحرية والحقوق المدنية التي ترفع لواءها هذه المنظمة “الحقوقية”.
باسم من قرر “الطبيب الرئيس ابن رفقة” منع أغنية تمجد الحرية وتفخر بشعب عربي، لا يترك رئيسه بشار الأسد فرصة إلا ويتحدث فيها عن “شعب سوريا” أم أن الـ”أي دي سي” لا يروق لها أن يتصالح نظام عربي مع شعبه، وأن يحاول إصلاح ما خربته السياسات الفردية والاستبدادية. أفلا تخدم هذه الأغنية “الرؤية الاصلاحية” التي سمعنا عنها كثيرا على لسان الرئيس الأسد في السنوات الأخيرة؟
وماذا يضير الـ”أي دي سي” عندما ينشد مالك جندلي: متى أراك يوما حرا يا وطني؟ ألا يقول الحكام في سوريا وغيرها من بلدان أمة العرب أنهم يسعون الى تحقيق تطلعات شعوبهم نحو الحرية؟
ألا يوجد مواطنون سوريون مسلوبو الحرية، تحت الاحتلال الصهيوني الغاشم المديد لأرض سورية عربية عزيزة في الجولان منذ 44 سنة؟
نحن نفهم أن أرباب الـ”أي دي سي” كانوا يسعون الى توظيف علاقاتهم ببعض رموز النظام في سوريا لمساعدتهم في مد جسور مع بعض الامارات العربية اللاهية بأموال النفط. ونفهم أن لعاب الـ”أي دي سي” ظل في السنوات الأخيرة يسيل للحصول على حفنة صغيرة من أموال النفط المبذرة في فضاءات الفساد في دول الغرب، وفي مصارفه وخزائن شركاته. لكننا لا نفهم كيف يكون غضب الـ”أي دي سي” من الفشل في الحصول على بعض أموال النفط العربي مسوغا، لانتهاك أبسط مفاهيم الحرية والحقوق المدنية والعدالة بمنع أحد روادها من الفنانين الملتزمين قضايا شعوبهم وأوطانهم من الأداء أمام مؤتمرها متراجعة عن دعوتها له ودون تقديم أي مبرر أو عذر منطقي لخطوتها الغريبة والمستنكرة حتى لا نعطيها وصفا آخر.
هل فكرت الـ”أي دي سي” بأي مساءلة أو محاسبة من قبل أعضائها على الأقل، المؤمنين برسالتها الحقوقية المدنية، أم أن الجيل الجديد من قيادات الـ”أي دي سي” يسير على نهج الطغاة العرب في تعاملهم الاحتقاري مع مشاعر الشعوب وتطلعاتها؟
على الـ”أي دي سي” أن تدرك، أن العرب الأميركيين لم يتركوا أوطانهم ويهاجروا الى أقاصي الأرض، ومنها هذه البلاد الأميركية إلا لضيق مساحات الفرص والحرية والعدالة وأنهم لا يقدرون لها هذا السلوك العدائي والمتهور بحق رمز من رموز الابداع العربي الذين كرسوا فنهم لخدمة قضايا شعوبهم.
وإن المطلوب من “اللجنة العربية الأميركية لمكافحة التمييز العنصري” اذا كانت لاتزال مؤمنة بالمفهوم الذي يعبر عنه اسمها، المطلوب أن تُسائل رئيسها وأي فرد آخر مسؤول عن الفضيحة المدوية التي شهدها مؤتمرها السنوي في واشنطن.
وحتى لا يصح القول: ربيع العرب.. خريف الـ”أي دي سي”!
Leave a Reply