لقد اختار الرئيس السوري بشار الأسد ان يخاطب شعبه من خلال أهم منابره، وهو “جامعة دمشق”، لأنه أراد بذلك ان يخاطب عقول السوريين قبل
عواطفهم، فكان خطابه الثالث بعد صمت طويل تعرض خلاله الى انتقادات من بعض “النخب” و”المفكرين”، حتى ذهب أحدهم الى كتابة افتتاحية مطولة يسأل فيها الرئيس السوري “أين انت مما يحصل في سوريا؟!”..
عواطفهم، فكان خطابه الثالث بعد صمت طويل تعرض خلاله الى انتقادات من بعض “النخب” و”المفكرين”، حتى ذهب أحدهم الى كتابة افتتاحية مطولة يسأل فيها الرئيس السوري “أين انت مما يحصل في سوريا؟!”..
جواب الأسد جاء واضحا وصادقا ومفصلا، ليس فقط للإجابة على “الغيارى” ولكن الأهم ليطمئن من يهمه الامر بأنه كان في ورشة استماع لشعبه.
لم يكن الاسد في كلامه موارباً بل كان صريحاً الى حد صارخ.
فقد أقر الرئيس السوري بأن استماعه للوفود الشعبية التي التقاها خلال “الأشهر الثلاثة الصعبة” أخرجه من “عزلته الرئاسية” الى قرى ودساكر سوريا في مختلف محافظاتها. اعترف الأسد بصراحة غير معهودة من اي زعيم عربي بأن مطالب شعبه مشروعة، مشيراً الى شعور الناس بالتهميش، ومقراً بالفساد، ليس فقط في اعلى هرم السلطة، بل في مراكز الدولة بكافة مستوياتها.
قال الاسد بأن الاصلاح الشامل ليس فقط رغبة النظام بأكمله، بل هو مطلب شعبي. ذهب الاسد أبعد من ذلك بكثير، ربما اكثر مما كان معظم السوريين يتوقعون منه، فطرح الى جانب تشريع القوانين الجديدة والعصرية للأحزاب والإعلام والانتخابات، تعديل بعض بنود الدستور مع إمكانية صياغة دستور جديد يجاري العصر.
لم يكن خطابه وعوداً فضفاضة بل دعمها بمواقيت زمنية رسمت “رزنامة الإصلاحات”.
لم يكن بشار الاسد خائفاً، ولم يكن قلقاً، رغم اعترافه بأن ما يحصل في بلاده هو مفصلي. ربما يكون لدى الرئيس السوري الكثير من الأسباب المطمئنة حول مستقبل بلاده، وما أكد ذلك خروج الملايين من السوريين في اليوم التالي للخطاب ليؤكدوا ان السواد الأعظم من الشعب لا يزال يؤمن بقيادته ويدعم مشروعه الاصلاحي وينبذ الارهاب والتعصب، ويتمسك بالوحدة والممانعة التي لم يخفِ الاسد بأن التراجع عنها هو المطلب الغربي الوحيد لدخول “جنتهم”.
خاطب الاسد شعبه باحترام كبير، على عكس ما فعله غيره من الحكام العرب، عندما انتفضت الأغلبية الساحقة من شعوبهم ضدهم، فنعتوهم بأسوأ الأوصاف من جرذان الى مدمنين على حبوب الهلوسة، الى ما هنالك من كلمات لا تدل إلا على عقم القيادة لدى تلك الفئة من الحكام.
تحدث الاسد قليلا عن المؤمرات التي تحاك ضد بلاده، التي تتربع على تقاطع زلازل سياسية تهز المنطقة برمتها. فشبهها بالجراثيم التي لا يمكن القضاء عليها، قائلاً إن الأطباء لا يعملون على إبادتها بل يعملون على تعزيز المناعة ضدها. بهذا أكد الأسد الشعور الساري في الشارع السوري والرافض لأي فكر متطرف يسعى جاهداً الى اختراق الجسم السوري، الذي لا يزال، حتى الآن، لا يعاني من أمراض المذهبية والتعصب المنتشرة في الوطن العربي من المحيط الى الخليج بفضل من يقف خلفها من غرف سوداء وأدوات وقنوات ومنابر تحريض.
“المفاجأة المنتظرة”، كانت تصريحات الدول الغربية، ولا سيما الأوروبية منها، التي خرجت بعد دقائق من انتهاء الخطاب، ليس فقط لتؤكد وجود المؤامرة، بل لتظهر حجمها وخطورتها. ولكن “الهجمة الأوروبية” كانت “باهتة” مقارنة بمواقف تركيا، التي أمعنت في ادخال خنجرها وغرزه في ظهر حليفها الاستراتيجي وجارها، الذي شرع أمامها ابواب العرب على مصراعيه بعد ان أدخلها الى قلوب السوريين والعرب وجيوبهم.
كان هزيلاً وفاضحاً تصريح الرئيس التركي وهو يبتسم امام الكاميرات التي كانت تلتقط له صورا في مخيم اللاجئين السوريين التي نصبت لهم الخيم قبل أسبوع من اللجوء، تعليقا على خطاب الاسد مستبقا ردود الفعل من الشارع السوري نفسه، ليعلن بأن الخطاب “لم يكن بالجدية المطلوبة”، تحدث غول وكأنه استاذ يخاطب تلامذة في الصفوف الابتدائية، متوهماً بانه لا يزال يخاطب الناس من “بابه العالي”.
المؤامرة موجودة وأدواتها وعدتها ماثلة لا جدل فيها، الا عند الذين فقدوا البصيرة، فأصبح الجدال معهم عبثياً على طريقة “عنزة ولو طارت”.
لم يكن توقيت الخطاب على ساعة الغرب، كما عهدنا مع الزعماء المخلوعين، بل أراده الاسد على توقيت دمشق ليخاطب شعبه، فهو يعلم علم اليقين بانه لا يمكن ان يرضي رغبات وشهوات الغرب، الذي يريد منه إقرارا بهيمنة اسرائيل وبخروج سوريا من قيادة محور الممانعة والالتحاق بأخواتها “المعتدلين”، أو بصراحة أكثر المنبطحين.
وما أشار اليه السفير السوري في واشنطن الدكتور عماد مصطفى في كلمته امام حشد في مهرجان التضامن مع سوريا في ديربورن الاسبوع الماضي، هو باختصار ما عرضه عليه احد المسؤولين في الخارجية الاميركية بأن شروط الدخول الى حضن الغرب الحصين من عاصفة “ربيع العرب” هي الابتعاد عن ايران والتخلي عن “حزب الله” والمقاومة وترك القضية الفلسطينية لمن تبقى من مقاومين فلسطينيين والدخول في “نعيم” السلام مع اسرائيل وبعدها طول البقاء.. والسلام على الحرية و”الأحرار”.
لذلك كله، لم يعر الاسد الاهتمام لردود أفعال الغرب، لأنها كان يتوقعها. اما لتركيا فحساب آخر لم تكتمل بعد فاتورته.
وبالعودة الى الخطاب الذي لم يكن مهادناً مع من اراد التغيير بفوهة البندقية، وقاذفة الصواريخ والإمعان بإرهاب الناس وقتل رجال الأمن والجيش والتمثيل بجثثهم وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة وبث العصبيات. لم يعد خفيا عنصر الارهاب الذي يلجأ اليه التكفيريون الظلاميون، بعد ان خرجوا من أوكارهم ليتوغلوا في صفوف المتظاهرين الذين يرفعون شعارات الاصلاح والحرية التي هي حق مكتسب لكل البشر.
بالأمس، قال الشعب السوري كلمته وكانت واضحة لا لبس فيها، تكلم بعد ان سمع من رئيسه كلاماً لا لبس فيه، الاصلاح برنامج والتزام وهو عقد بين الاثنين، والحوار هو عنوان المرحلة القادمة.
اما الصراع فهو طويل وصعب هكذا وصفه الرئيس السوري المتأكد بأن سوريا ستنتصر في نهاية المطاف، لانه قدر المقاومين ان يصمدوا ويقاوموا حتى ينتصروا، والتاريخ يشهد على ذلك.
ثمة كلمة يجب ان تقال بحق الشعب السوري، وهو يتعرض الى حرب كونية مجهزة باساطيل إعلامية ومنها الكثير الناطق بالعربية، وهي انه برهن خلال هذه المحنة بانه على درجة عالية من الوعي والادراك والوطنية والالتزام، من معارضي النظام الشرفاء والموالين. مواقف تحسب لهذا الشعب ولأمته العربية المنكوبة في اكثر من مكان، ما يبعث الأمل بالفرج، ولو بعد حين. وها هي “ثورة يناير” الواعدة تبشر بعودة “أم الدنيا” الى اهلها.
سوريا.. ما بعد الخطاب ليس كما قبله!
“صدى الوطن”
Leave a Reply