ربيع ديربورن!..

تجذبني بشكل خاص لغة الصم والبكم، وأتابع مقدم النشرات الخاصة بهذه اللغة، والذي
غالباً ما يتواجد على شاشات التلفزة في صورة صغيرة جانبية، ويقوم بترجمة ما يقوله
المذيع “العادي”. وأفكر.. كيف يتحادث ويتناقش الصم والبكم حول موضوع الثورات
العربية؟ وكيف يصرخون بوجوه بعضهم البعض، وكيف يقاطعون ويعصبون ويرمون بعضهم البعض
بتهم التخلف والخيانة والتآمر؟

أتذكر.. إن إحدى مقاطع الفيديو عرضت شخصاً أصم أبكم مؤيداً لرئيس عربي، ولكن ذلك
الشخص لم يكن من فئة الصم والبكم الذين يعرفون لغة الإشارات. كان من النوع الأصم
الأبكم “العادي”، وكان يضم صورة الرئيس ويقبله ويهمر بانفعال.. حتى أنه كان على
وشك أن ينطق!

وليس هذا مربط الفرس، لكن الفكرة.. أن الكثير من
الناس  حاذقون ومتمرسون في الكلام ويسمعون النأمة، ولكنهم في الحقيقة من
النوع الذي يصفه
القرآن بأنهم “صم بكم عمي فهم لايفقهون”.

تأخر الربيع على ديربورن. أو لنقل إنه ربيع ملبد مزاجي، فلا تلبث أن تطلع الشمس
وتحلو النهارات حتى تتلبد السماء بالغيوم وتهطل أمطار غزيرة. تأخر الربيع فعلاً..
ليترك هذا الأمر آثاره الفورية على وجوهنا، خاصة وأننا ما زلنا نحمل في جيناتنا
الوراثية الكثير من خصائص البدو.

وكان الربيع محرك حياة البدو.. الذين يتنقلون ويهاجرون من أرض إلى أرض طلباً للكلأ
والماء. هكذا غادرنا موطننا الأصلي في شبه الجزيرة وانتشرنا في الأرض.. بحثاً عن
الربيع. الربيع يبقى هو الأجمل والمنتظر.. مع أننا فشلنا في حصص الإنشاء والتعبير،
في كل المراحل الدراسية، بكتابة مواضيع مؤثرة وصادقة وقادرة على مقاومة عوامل الحت
والتعرية. والسبب بسيط.. أن الربيع هو أجمل من كل ما كتب عنه!

ولفريد الأطرش أغنية جميلة اسمها “الفصول الأربعة” ولكن اسمها الشعبي الرائج هو
“الربيع”. وهذا أيضاً مفهوم ومتوقع، لأن الربيع صاحب تأثير سحري، ولأن الربيع يقوى
أن يكون رمزاً حضارياً، لا لانبعاث الطبيعة وقيامها من الموات والقفار، بل رمزاً
لتجدد الإنسان وقيامته من الخمول واليأس والإحباط، ولهذا فكل حضارات الشرق استمدت
ذلك الرمز الربيعي وتبنته وعوّلت عليها..

وقلما نجتمع نحن العرب ولا نتحدث عن الربيع، ولا أقصد بالطبع ربيع الرعيان والبدو
ولا ربيع الحضارات القديمة ولا ربيع فريد الأطرش ولا ربيع الخولي بل ربيع قيامتنا
وانبعاثنا كأمة وكشعب لديه عقدة غريبة بالتآمر والاضطهاد والخسارة. أقصد بالضبط..
ربيع التغيير، أو إذا شئتم ربيع الثورات العربية!

وحدث أن جاء ربيع الثورات إلى العالم العربي بعد صيف طويل قاحط، وشتاء مدلهم قارس،
وخريف أصفر كئيب. جاء الربيع، فشد الكثير من العرب رحالهم إليهم وساقوا قوافلهم
نحوه. كتبوا مواضيع التعبير والإنشاء، وغنوا أغنية الربيع لفريد الأطرش، واستبشروا
الخير بـ”الكلأ” و”الماء”..

عم الربيع تونس ومصر بسرعة، وبسرعة نكس الكثيرون وبدأوا بشتمه متحسرين على الفصول
الأخرى، بينما يصارع الربيع كل عوامل الطبيعة في بعض البلدان الأخرى، في مصر
وسوريا واليمن.. قد ينجح أو لاينجح.. هذه مسألة أخرى.

وهنا في ديربورن.. تأخر الربيع، مع أن هذه المدينة بحاجة الى التجدد والانبعاث أكثر
من اليمن وليبيا وسوريا ومصر وتونس مجتعمين! ولكن يبقى السؤال؛ كيف يمكنني أن أقول
ذلك بلغة الصم والبكم؟!