عندما يتعلق الأمر بمواضيع مرتبطة بإسرائيل، يمكن أن يصاب السياسيون في واشنطن بالهستيريا، حيث يدلون بأغبى التصريحات أو يأتون بأسخف الأفعال. والواقع أن الأدلة على مثل هذا السلوك الغريب كثيرة ومتنوعة، وقد شاهدنا في الأسبوع الماضي فقط أمثلة عدة في هذا الباب. وفي مقدمة هذه الأمثلة، هناك السناتور الجمهوري المنتخَب حديثاً مارك كُرك من ولاية إلينوي. فـ”كرك” هذا يريد من الولايات المتحدة أن تستعمل الوسائل العسكرية في عرض البحر لوقف سفن المساعدات الإنسانية المتجهة إلى غزة من أجل فك الحصار عنها؛ حيث كتب يقول إن الولايات المتحدة ينبغي “أن توفر كل العمليات الضرورية الخاصة والدعم البحري للقوات البحرية الإسرائيلية من أجل تعطيل السفن قبل أن تمثل تهديداً بالنسبة للأمن الساحلي الإسرائيلي أو تعرّض الأرواح الإسرائيلية للخطر”.
وعلى ما يبدو، فليس مهمّاً بالنسبة لهذا السيناتور حقيقة أن العشرات من المواطنين الأميركيين يوجدون على متن تلك السفن (ومنهم عدد من الموظفين العسكريين الأميركيين المتقاعدين)، وأن من شأن أي عمل عدائي من قبل الجيش الأميركي أن يعرّض أرواح مواطنيه للخطر. كما يبدو أنه ليس مهمّاً أيضاً بالنسبة له أنه في ظل الانخراط الفعال للولايات المتحدة في عدد من الحروب في المنطقة وتدني معدلات شعبيتها إلى مستويات قياسية في العالم العربي، فإن عملا عدائياً من هذا النوع لن يؤدي في الواقع إلا إلى إلحاق مزيد من الضرر بصورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وعلى القدر نفسه من الإزعاج الذي أثارته دعوة كرك كانت الرسالة التي بعث بها الأسبوع الماضي حاكم ولاية تكساس ريك بيري إلى وزير العدل الأميركي إيريك هولدر. فقد أخذت بيري، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه يدرس إمكانية دخول سباق الانتخابات التمهيدية الرئاسية الجمهورية، الهستيريا حول سفن المساعدات المتجهة إلى غزة في اتجاه مختلف؛ حيث قال في رسالته: الأهم هو أنني أكتب إليكم لأحثكم على أن تتبعوا كل الوسائل القانونية من أجل حظر هذه الأعمال غير القانونية ومنعها، ومتابعة كل من يختار المشاركة فيها على رغم جهودكم الاستباقية. ولكن بيري لا يشير إلى أية قوانين أميركية تم خرقها؛ مثلما لا يصف أي “الوسائل القانونية” ينبغي اتباعه. وما يكشف عنه في الواقع هو أنه مستعد، في سبيل الوصول إلى الرئاسة، ليقول أو يفعل أي شيء تقريباً، مهما كان فجّاً وسخيفاً.
ثم هناك الخطوة التي اتخذها هذا الأسبوع مجلس الشيوخ الأميركي بأكمله عندما صوت بالإجماع لصالح قرار يعبر عن “معارضته لضم حماس ضمن حكومة وحدة وطنية (مشيراً في الوقت ذاته إلى أن) الجهود الفلسطينية الرامية إلى الحصول على الاعتراف بدولة خارج مفاوضات مباشرة إنما تُبرز غياب التزام ينم عن حسن النية تجاه مفاوضات السلام… (الأمر الذي) ستكون له تداعيات على استمرار المساعدات الأميركية”.
وفي معرض حديثهما الداعي إلى مشروع قرار يهدد بوقف المساعدات، أدلى عضوا الكونغرس اللذان اقترحاه بتصريحات جديرة بالتوقف أيضاً لفرط عدم توازنها. فالراعية الرئيسية لهذا التشريع، عضو مجلس الشيوخ الجمهورية عن ولاية ماين، سوزان كولينز، اتهمت الأمم المتحدة بأن لديها “سجلاً موثقاً من التعرض للاختطاف من قبل” الفلسطينيين لتُستعمل ضد إسرائيل. ومن جانبه، ندد زميل كولينز، الديمقراطي عن ولاية ميريلاند، بن كاردن بجهود الأمم المتحدة، واصفاً إياها بأنها “محاولة أحادية الجانب من قبل الأمم المتحدة لتأسيس دولة فلسطينية”.
وبالطبع، فإن كولينز تتغاضى عن المرات الكثيرة التي يتم فيها اختطاف مجلس الشيوخ الأميركي من قبل أنصار إسرائيل لاتخاذ خطوات تضر بالفلسطينيين (مثل هذا القرار نفسه الذي يهدد بقطع المساعدات الأميركية، أو القانون سيء الصيت حول نقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس لعام 1996، الذي كان له تأثير مدمر على نظرة الناس إلى الولايات المتحدة عبر بلدان العالم العربي). ثم إنه إذا كان توصيف كاردن لخطوة الأمم المتحدة الممكنة قد استُعمل كثيراً إلى درجة أن بات واحداً من الكليشيهات، فإنه يمثل مع ذلك محض هراء لأنه يتحدى المنطق ويصف أية خطوة تُتخذ بعد تصويت الأغلبية الساحقة من أكثر من 190 دولة عضو في الأمم المتحدة بأنها “أحادية الجانب”. ولكن حين يتعلق الأمر بإظهار الولاء لإسرائيل، فإن العقل والمنطق يوضعان جانباً لصالح مواقف غريبة، بكل المقاييس.
إن كل هذا يمكن وصفه بأنه “كلام فارغ غير مؤذ” من سياسيين مختصين في الحزبين؛ ولكنه خطير وله عواقب، وذلك لأن الأفعال والتصريحات من هذا القبيل تبعث برسائل فظيعة إلى الخارج حول عجز الحياة السياسية الأميركية عن التعاطي بإنصاف مع أي موضوع من مواضيع الشرق الأوسط يتعلق بإسرائيل. كما تؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف الدبلوماسية الأميركية وتقويضها. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الأفعال، والحياة السياسية المحرفة على نحو غريب، والمنحازة إلى جانب واحد التي تعكسها، تقيد أيدي الإدارات المتعاقبة (أو تلوي أذرعها أحياناً)، مما يؤثر سلباً على قدرة صناع السياسات على العمل. ثم إن هذه التصريحات والأفعال تقوي وتشجع في النهاية المتشددين في كل من إسرائيل والعالم العربي، الذين أصبحوا يعتقدون أنه ليست ثمة قيود على السلوك الإسرائيلي، وأنه من المستحيل أن تُسمع بواعث القلق العربية أو تُحترم في النقاشات حول السياسة الأميركية.
وهكذا، فإن كل هذه المواقف، أخطر بكثير من أن تكون مجرد هستيريا غير مؤذية أو غباء سياسي. كما أنها سبب مهم ضمن أسباب تخبطنا في الفوضى التي نجد أنفسنا وسطها في الشرق الأوسط، وسبب مهم أيضاً من الأسباب التي تجعل تسوية عادلة للنزاع العربي الإسرائيلي تبدو مستعصية إلى هذا الحد.
Leave a Reply