“صار لي بعرفو عمر، عمر البيادر والوجوه السمر. أيام الغمر ورا المر ومواسم عز ومشاوير”. أعرفه من زمان كانت الجارة في القرية، وكدليل على كرم الضيافة تدور في صينية الدخان، تطل من كل نوع سيجارتان، وكان هو يرفض التدخين شاكرا. وكانت الجارة تصدر حكما نهائيا عليه بأنه لم يصبح رجلا، وتسقطه من لائحة العرسان لبناتها، كونه غير مودرن ولا يتبع الموضة.
مريم شهاب
ثانية، جمعتني به الغربة وشقاء الدنيا ومشاكل الأولاد والأحفاد وأحوال الوطن. ورغم التناقض في السياسة بيني وبينه، تبقى للجلسة والحديث معه، نكهة الكروم ونسمات المشاوير وشقاوة الطفولة.
بقي مدخنا طوال تلك السنوات، وكلما قرأ أو سمع تحذيرا عن مساوئ التدخين يقول: نعم، أنا إنسان غير حضاري، عديم الحس العالمي وخارج عن النظام الدولي الجديد. ووصل بي الحقد على البشرية إلى حد المساهمة بفعالية في انقراضها، بدءا بنفسي ومرورا في كل أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء. وما زلت أجد صعوبة في استيعاب العلاقة بين سجائري والخطر المحدق بالبشرية والأمن الصحي في العالم. ولا أدري كيف صرت سماً زعافاً وبكتيريا وجراثيم مبيدة للناس، تبدو أمامها غازات الخردل والديوكسين واليورانيوم المخصب منشطات حيوية.
من زمان بعيد، كنت مقتنعا بأن التدخين مضر بالصحة ونأيت بنفسي عنه. دفعت غاليا ثمن إحباطات المراهقة والامتناع عن التدخين والشعور بالنبذ والتخلف حتى قررت تجاوز المحنة، اشتريت رجولتي ودخلت العصر بعلبة “جيتان” بلا فلتر وتعلمت بسرعة كيف أستل سيجارة، ثم أضربها على العلبة لدكها قبل إشعالها.
ذهب الخجل وصارت السيجارة رفيقتي. فقد اكتشفت أن لها فضائل عديدة، فهي طاردة للهموم ومساعدة على الإلهام، وأحيانا مزيلة للاكئتاب ومبرراً للانفتاح على الآخرين والأخريات.
نعم التدخين يضر بالصحة على رأي الخبراء التي تطالعني كل صباح بعبارة “التدخين يضر بصحتك ووزارة الصحة تمنعك بالامتناع عنه”. ولكنها صحتي أنا وأنا حر بها. ونشأت وتربيت على تسليم قدري لله، هو يعطي وهو يأخذ وهو “يضبط” الساعة. ومن لم يمت بالسرطان مات بغيره والدليل هذه الأرواح التي تغتصب هدرا كل يوم في بلاد العرب أوطاني.
أيضا أعلم أن التدخين يضر بالجيب. روادتني فكرة المال الذي يتطاير دخانا، وما زلت، ورغم ضعفي في الحساب والاقتصاد، حسبت أن عدم شراء علبة دخان، بخمسة أوستة دولارات يوميا يجعلني أوفر آلاف الدولارات كل عشر سنوات. وندمت أنني أحرقت أكثر من سيارة وعمارة، لكنني لم أعثر بعد على صديق أو زميل أقلع عن التدخين وغيّر سيارته أو تحسنت معيشته. بالعكس، بدّل التعويض عن نقص النيكوتين بالإدمان على الشوكولاتة والفستق والبزورات، يعني استبدال سرطان الرئة المحتوم بكوليسترول مضمون.
صارت موضة محاربة التدخين موضة رائجة، وكأن مشاكل الفقر والجهل والحرب والمرض انتهت من العالم ولم يبق إلا مشكلة التدخين. ومنعه في الأماكن العامة والمكاتب والمطاعم والمقاهي والطائرات تحت طائلة العقوبة، حتى هنا في أكثر الدول الغربية ديمقراطية: القمع والمنع أسهل القوانين.
فجأة لم أعد رجلا عصريا ولا إنسانا حرا في التدخين، وأصبحت من جيل المدخنين المنبوذين الموبوئين حاملي جراثيم السل والطاعون وفيروس الأيدز وذوي الروائح الكريهة. لم يقتصر القمع على الحياة العامة حتى وصل الإرهاب الى العائلة، عائلتي التي اجتمعت واتخذت قرارا يمنع العبد المدخن –بابا- من التدخين في المنزل وفي السيارة. وحتى حفيدي، ابن الأربع سنوات، عبأته المدرسة ضدي وصار ينهرني عند إشعال السيجارة مشيرا إلى قلم التلوين الأسود ويقول لي: انظر جدو، كيف أصبحت رئتاك.. بلاك (أسود). أخيرا فهمت لماذا يكرهون العرب والأفارقة السود.
لو كانت الدولة ووزارة الصحة صادقة في خوفها على صحة مواطنيها، لخفضت الضرائب على المدخنين بدل زيادتها، فالمدخنون على الأقل، حسب خبرائها، لن يعمروا طويلا. وهذا يعني أنه إذا كان أمل في تخفيف ديون صندوق التقاعد الاجتماعي فالفضل يعود للمدخنين الذين يدفعون ضرائب ثمن الموت المبكر بدل الاستفادة من معاش التقاعد وخدمات الضمان الصحي.
يا سادة، يا دكاترة، ويا خبراء، لا نطلب سوى الحق في التدخين. مبروك عليكم صحتكم وآلاف الدولارات ومبروك لكم العيش والعمر الطويل. نحن نحترم قرارتكم وحريتكم وحقوقكم. نحن ضحايا العصر والعولمة لا نطلب سوى الاعتراف بنا –أنا وزملائي المدخنين- كأقلية لها حق التنفيخ وعلى ما أعرف أن للأقليات دوما حقوقا، أم أنني غلطان؟
Leave a Reply