لم أندم في حياتي على شيء بقدر ندمي على تمكّن تلك العادة من نفسي، والتي لم أستطع منها فكاكاً، ولا إقلاعاً، ولا توبة. ذاك الندم الذي صاحبه الخجل والإحراج، في ذلك اليوم من أيام ديربورن الغنّاء، اليوم المميز من كل أسبوع “الأربعاء” يوم التنزيلات. اليوم الذي تتسابق فيه أكثر المحلات والدكاكين التي تبيع الخضروات والفواكه والمواد الغذائية على فتح براداتها العامرة بكل ما لذ وطاب من تلك المواد، إضافة إلى الألبان والأجبان (ولا أنسى البيض).. مما لم يبع في باقي أيام الأسبوع، أو الأسابيع الماضية، أو الذي بقي له كم يوم لتنتهي صلاحية استهلاكه، وبالتالي وبالضرورة، فإن السباق يشمل أهلنا، وأحباءنا الذين يتوافدون من كافة أنحاء الولاية وجاراتها من الذين يتوقعون أن تقوم القيامة قبل حلول الأربعاء الذي سيأتي بعد أسبوع فيشترون ما يفيض عن حاجاتهم في الحياة الدنيا، فربما احتاجوها في عوالم أخرى، كما كان يفعل الفراعنة.
وعود على بدء.. فإن عادتي تتمثل في أنيّ، أتذوق مما أود شراؤه للإطمئنان على جودته، فـ”العاقل لا يأكل من معفّن مرتين”، لكن هناك استثناءات، فأنا لا أستطيع أن أتذوق البطيخ أو الشمّام ولا جوز الهند أو جوز اليابان، وما شابه من الأحجام الكبيرة. وما حصل معي في الأربعاء الأخير، هو أنني وضعت ما أريد في عربة التسوّق، بعد التذوّق، ثم شققت طريقي خلال الزحام، الذي يشبه زحام الأحياء الشعبية بمصر الشقيقة في عشية العيد.
وصلت بعد جهد جهيد الى المنطقة المخصصة لبيع اللحوم والتي لا أعرف لماذا لا يوجد عليها تنزيلات. ووقفت الى جانب سيدة تنتظر دورها وحسب تقديري فإن عمرها لا يقل عن ستين عاما. وفي انتظار تلبية طلبي من اللّحام، مددت يدي وأخذت حبة عنب من الذي ذقته سابقا ووضعتها بفمي، فقالت السيدة:
– يا عيب الشوم عليك!
فقلت بانفعال مكبوت: عم تحكي معي يا حجة؟
– صرت أطرش.. عقبال العمى إن شاء الله!
• فيني أعرف ليش وبأي صفة عم تحكي معي.. وتدعي عليّ؟
-صحيح اللي كانوا يستحوا ماتوا!
• شو يستحوا.. وما يستحوا؟ حسني ألفاظك يا ست!
– الحق مو عليك والله من أول ما شفتك ما حبيتك.. بس يللي ما بتقطع فيه الكلمة.. ما بتقطع فيه ضربة السيف (قالتها وبقيت لا تنظر إلى وجهي)، فقلت لها:
• يا ست.. يا حجة.. عيب هادا الحكي منشان حبة عنب.. منيح اللي ماني بالع بطيخة!
– إنشالله مطرح ما يسري يهري..
• لأ.. هيك زوّدتيها.. شو مين مفكري حالك؟
(عملت نفسها وكأنها لا تسمعني وتابعت)
– مالك حق تلمسها لمس.. أصلاً لو فيك ذرة أخلاق أو رجولة.. ما بتعمل هيك..
• الله يخزيك يا شيطان.. احترمي حالك أحسنلك هه.. شو هادا العنب من كرم اللي خلفوكي؟ ومن منشان ترتاحي بطلت بدي لا لحمة ولا شحمة! وهممت بتحريك العربة وإذ بامرأة أخرى تقترب منها وتقول لها: بعدك عم تحكي مع مقصوف العمر؟
حينها صرخت بأعلى صوتي: يا إخوان.. يا ناس.. يا عالم اشهدوا.. واللّهِ بعمري ما عدت دوق.. ولا آكل سم الهاري من أي محل.. أصلاً أنا إجيت بالغلط يوم الأربعاء.
لكن المرأة الثانية تابعت قولها: بيكفي.. بيكفي.. سكّري الخط بوجهو.. بعد اللي سمعوا منك.. بعمرو ما عاد يرفع إيدو عليها.. لا بالضرب ولا بغيرو.
حينها انتبهت الى أن السيدة أم لسان دافي تضع جهازا صغيرا في أذنها تحت الحجاب فقلت في نفسي: سامح الله الذي اخترع “السلرفون” و”الريسيفر”. ولمت نفسي لأني كنت أظن أن من أراها تحدث نفسها في الشارع أو في السيارة أو في الأتراح والأفراح، تحتاج لطبيب نفسي..!!
ونلتقي..
Leave a Reply