من تونس، ألهبنا البوعزيزي، نحن الخضرجية، الذين كنا ندفع عرباتنا في الأسواق المزدحمة، خائفين من شرطة البلدية، وألهب العالم العربي بأسره بعود ثقاب واحد في دلالة كثيفة على جفاف دولنا وأحلامنا. من هناك بدأ تساقط العروش..
وراء المحيط، من بلد عربي إلى آخر، وبغض النظر عن حجم التململ ومستوى الصراخ ضد الظلم والطغيان، كنا نبرر حياديتنا الباردة ببعد المسافات، مكتفين بمتابعة نشرات الأخبار وإعادة اجترار التحليلات السياسية، ثم وصلت الاحتجاجات إلى بلاد العم سام في حركة “احتلوا وول ستريت”، التي يبدو أنها تعني الجميع في العالم ما عدانا، وبعدها صارت على مرمى حجر من مضارب خيامنا.. في ديترويت، ولكن بالطبع من المتوقع أن تبقى ديربورن بمنأى عن ذلك، بعيدة عن أية تأثيرات تأتي من العالم العربي الذي جئنا إليه، أو من العالم الأميركي الذي اخترنا الانتساب إليه بملء إرادتنا، والسبب بكل بساطة: ديربورن.. ليست ديترويت.. وهي ليست نيويورك، كذلك.
ولذلك من الطبيعي أن تفشل كل الدعوات لاحتلال ديربورن رغم وجود ألف سبب يدعو إلى ذلك. فكروا فقط.. من الذي يتحكم بأمورنا وينطق بلساننا؟. وفكروا كم جمعية ومنظمة وناديا تدعونا لحفلاتها السنوية ثم تعود للنوم بقية السنة؟. وفكروا لماذا مايزال تأمين السيارات في مدينتنا هو الأغلى؟. وفكروا.. هل يوجد مدينة أميركية أخرى يحمل بعض أفرادها الأصحاء المتذاكين لوحات “الهاندي كاب” للتحايل على مواقف سيارات المعاقين؟. وفكروا.. بعد كل هذه الثورات مايزال بعض الكتاب والشعراء يكتبون بأخطاء إملائية ونحوية أشعارا ومقالات بمنطق العصور الوسطى. وفكروا كيف أن أي “واحد” يؤسس منظمة ويصير رئيسها من أجل أن يخلق لنفسها لقبا..
لا تنسوا أيضا الطبقة المخملية، الكلاسيكية الجديدة، في مجتمع مدينتنا التي اكتسبت صفات القيادة والريادة والفعالية من حضورها الدائم للمآدب والولائم وتبادل السلامات والصور، ولا تنسوا “ولاة أمورنا” الذين ينامون حتى تعلو شمس الظهيرة ويذهبون لصيد الغزلان ثم علينا بعد ذلك أن نبجلهم ونفسح لهم المجال للصفوف الأولى، وتذكروا إن الذكرى تنفع الثائرين.. كل تلك الصفقات التي تعقد بإسم الجالية، سواء أكانت تجارية أم أمنية..
وكفوا عن لعن التخلف والأمية والفرقة والطائفية، لأننا معطوبون حتى النخاع، وأميون ومتفرقون وطائفيون حتى العظم، وليس صحيحا أن الحدود السياسية بين بلدان العالم العربي من صنع الاستعمار، بل هي من صنعنا، والدليل هو هذه الحدود التي تفصل بيننا في منطقة مترو ديترويت، وكذلك الحدود التي تفصل بيننا في مدينة ديربورن، ولا شك أن أي مسافر ديربورني يصل إلى حدود ديكس يكون كمن يسافر إلى اليمن!
لدينا كل الأسباب للقيام بـ”احتلال ديربورن” غضبا وحبا وتمردا، وإذا كنا لم نفعل ذلك حتى الآن، فلأن أكثرنا ضالع، وغائص حتى أذنيه، في جعل هذه المدينة مدينة تستاهل الثورة والانتفاض. جميعنا بلا استثناء!
Leave a Reply