بعـد إعلان التحرير وقيام حكومة انـتقـاليـة
بعد أكثر من 8 أشهر من الإقتتال الدامي إنتهت بهزيمة النظام الليبي السابق ومقتل القذافي بعد 42 سنة من الحكم الجائر، أعلن مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الإنتقالي الليبي في خطابه الاحد 23 تشرين الأول (أكتوبر) عن تحرير الأراضي الليبية، تلى ذلك إعلان الأمين العام للحلف الأطلسي أندراس راسموسن في زيارته يوم الإثنين 31 تشرين الأول إلى ليبيا عن إنتهاء المهمّة العسكرية لحلف “الناتو” في ليبيا، وذلك بعد أن أقرّ مجلس الأمن وبالإجماع الأسبوع الماضي إنهاء التفويض المعطى لحلف “الناتو” بإستخدام القوة لفرض منطقة الحظر الجوّي لحماية المدنيين، رافضا بذلك طلبا للمندوب الليبي لدى الأمم المتحدة برغبة المجلس الوطني الإنتقالي في تواصل عمليات “الناتو” العسكرية -التي إستمرت على مدى ثمانية- أشهر إلى نهاية السنة الحالية على الأقل بحجة هشاشة الأوضاع الأمنية في البلاد.
وقدّم محمود جبريل رئيس المجلس التنفيذي في ليبيا إستقالته من رئاسة حكومة تصريف الأعمال، مفسحا بذلك المجال للمجلس الوطني الإنتقالي لينتخب عبد الرحيم الكيب رئيس جديدا للحكومة الإنتقالية بعد مشاورات طويلة وصفت بالصعبة.
حكومة الكيب.. مرحلة التكنوقراط
وعبد الرحيم الكيب تكنوقراطي وأكاديمي ليبي تحصّل سنة 1976 على الماجستير من “جامعة ساوث كاليفورنيا” وعلى شهادة الدكتوراه من “جامعة نورث كارولاينا” سنة 1984 ثم إستقر في الولايات المتحدة، وفي سنة 1996 بدأ التدريس بـ”جامعة ألاباما” لينتقل بعدها إلى العمل بدولة الامارات العربية، وكان عبد الرحمان الكيب قد تخرّج قبل ذلك سنة 1973 من جامعة طرابلس الليبية.
ومن مهام الحكومة المرتقبة التحضير إلى إنتخابات مجلس تأسيسي يستمر ثمانية أشهر على أقصى تقدير ليقوم خلالها بكتابة دستور للبلاد تتبعه إنتخابات عامة في غضون سنة، وهو تماما النموذج الذي إختارته الثورة التونسية.
وقد باشر عبد الرحمان الكيب بإجراء مفاوضات تشكيل الحكومة في ظل ظروف سياسية وإقتصادية وإجتماعية وأمنية هشّة، فهل ينجح وهو المطالب بإعادة إستتباب الأمن والنظام وإنعاش الإقتصاد وبناء دولة “الوفاق” ولملمة جراح الليبيين، في قيادة سفينة ليبيا إلى شاطيء السلام ويجنّبها الهزات وسط واقع محفوف بالمخاطر ومستقبل يلفّه الغموض؟
التحدّيات الإقتصادية.. العوائق والإنتظارات
رغم أهمية الأمن يظل القوت اليومي للشعب أكبر الهموم، ولدفع عجلة النمو ستجد حكومة عبد الرحمان الكيب نفسها أمام تحدّ وهو إعادة بناء البنية التحتية التي عرفت دمارا كبيرا أثناء العمليات العسكرية فتعطّلت المصانع ومصافي النفط والموانئ والمطارات والطرقات ممّا أضعف تنامي عملية التجارة البينيّة داخل البلاد ومن وإلى ليبيا. مشكلة قلة الماء وتقطع شبكة الكهرباء وشح مواد الغذاء، وهي عصب حياة الناس تمثّل هي الأخرى معضلة كبرى ستواجهها ليبيا مما سيزيد في عملية التوريد وإزدياد الإنفاق. وبسبب إعتماد الإقتصاد الليبي على مبيعات النفط كمصدر أساسي للدخل وفي ظل عدم عمل مصافي النفط بطاقتها الكاملة نتيجة الدمار الذي لحقها، ستضطر الحكومة الليبية إلى اللجوء للقروض الخارجية مما سيعمّق مشكلة الدّين ويبطىء وتيرة النمو بالبلاد.
ولتخفيض عملية الإنفاق، في هذا المرحلة، منعاً لتفاقم الدين، ليس أمام حكومة ليبيا إلاّ التقليل من إستقدام العمّال من الخارج والإعتماد على اليد العاملة المحلية وتطوير مهاراتها عبر نشر مراكز التكوين وإعادة بناء الجامعات والمدارس وبناء السدود وتقديم المعونات لتحفيز الناس على العمل في الفلاحة لانتاج الغذاء محليا، والسعي إلى تطوير القطاع الصحي الذي إزداد تدهوره خلال فترة الحرب وذلك بترميم المدمّرة منها وتركيز المشتشفيات المجهّزة والوحدات الصحيّة في كل مناطق ليبيا لتوفير التغطية الصحية إلى كل مستحقّيها.
لا يمكن لهذه الحكومة أن تحلّ كل المشاكل الإقتصادية لكنّها قادرة على أن تحطّ قطار الإقتصاد الليبي على السكّة الصحيحة وذلك بإيجاد الأرضية الملائمة لإنطلاقة إنتعاشة إقتصادية حقيقية، وتكريس آليات عمل جديدة تعتمد الشفافية والعمل للمصلحة العامة للبلاد.
فهل تستطيع الحكومة الجديدة تحقيق ذلك وسط تسريبات بوجود وعود وعقود لأطراف داخلية وخارجية أبرمت وراء الأبواب المغلقة خلال الحرب؟ وهل ستسمح لوبيات المصالح الدولية ومن المستكرشين الليبيين الذي عادوا إبان الثورة ليمتصوا دم الدولة الناهضة من جديد؟ هل سيسمع كل هؤلاء للحكومة بتركز قطاعات إقتصادية منتجة يعود ريعها إلى كل الليبيين أم ستقتسمُ دوائر المال والأعمال المحلية والدولية الكعكة الليبية لتعود البلاد سيرتها الأولى وتكون العملية فقط تغيير وجوه بوجوه، “وكأنك يا أبوزيد ما غزيت”.
المصاعب الاجتماعية.. إعادة توحيد النسيج
يتكوّن المجتمع الليبي من إثنيات لغوية وعرقية، ففي الشمال وعلى السواحل يسكن العرب وفي المرتفعات بالجبل الغربي ومنطقة نفوسة يتواجد أغلب الأمازيغ وهم السكان الأصليون لشمال إفريقيا وفي الجنوب وعلى تخوم الصحراء تتمركز قبائل الطوارق من الأفارقة. وإلى جانب هذا التنوع الإثني هناك تنوع في نمط العيش نتيجة تنوّع البيئة الجغرافية حيث تتميز مناطق الشمال بالتمدّن ووجود سكان من الحضر في حين تتنقل قبائل الصحراء أو ما يعرفوا بالجمّالة في المناطق المتاخمة للنيجر ومالي أقاصي جنوب الصحراء وهي تعيش نمط حياة رعوي يعتمد الترحّل من مكان إلى آخر طلبا للماء والمراعي. وقد عمل النظام الليبي السابق على اللعب على هذا التنوع فكان تارة يوظّفه لمصلحته وطورا يُخمده.
وبعد إنقلاب “فاتح سبتمبر” 1969، ركّز النظام على العروبة ثم لمّا ولّى وجهه صوب إفريقيا إستألف قبائل الطوارق وبقية الإثنيات الإفريقية بجنوب الصحراء الليبية وكانت هذه العملية تخلق غيرة وحزازات لكنها لم تكن قادرة على التمظهر وبقيت كالنار الكامنة تحت الرماد تنتظر من ينفخ فيها لتستعر.
ولما بدأ الإقتتال الليبي تتطورت الأمور إلى مزيد تشظي البنية المجتمعية الليبية وتعميق الانقسامات بين مكوناته ، فالشعب الذي كان يرزح تحت منظومة كُليانية كتمت انفاس الجميع وخنقت حق التعبير عن التنوع الثقافي والقبلي والمناطقي والاثني الذي كان موجودا في البلاد والذي بمجرد ان ابتدأ التحرك الشعبي وتخلخل النظام وفقد سيطرته على دواليب الدولة حتى استيقظت تلك النعرات والمكبوتات وأطلت العصبيات القديمة برأسها، وللتنفيس والتعبير عن الذات بدأ التشاحُن الاجتماعي وتوسّعت الهوّة بين أبناء البلد الواحد، زاد الطين بلة عمليات القتل الجماعي التي طالت الليبين من ذوي البشرة السمراء بحجة موالاتهم للنظام السابق وقد وثّقت منظمة هيومن رايتس وُوتش تلك التجاوزات ثم إزداد الامر سوءا بنشر صور مقتل القذافي والتي ادانتها امريكا وبريطانيا، واستمرار بث تلك الصور قد تزيد الاحتقان والكره وتبعث برسالة خاطئة الى الداخل الليبي وصورة خاطئة عن الليبيين الى الخارج، كل هاته العوامل قد تزيد في تعميق الشرخ بين مكونات المجتمع الليبي ويبدو ان القادة الليبيين واعون بذلك، حيث بادر رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل بإدانة القتل بالشبهة وبدون محاكمات وأمر بدفن القذافي وفتح تحقيق في مقتله.
إذاً، على رئيس الحكومة الجديد ان يقوم بمقاربة موضوعية لحالة التنوع داخل ليبيا وذلك ببناء مؤسسات المجتمع المدني التي تكرس واقع التنوع وثقافة التسامح والقبول بالاخر وحماية الحقوق الثقافية لكل مكونات المجتمع الليبي والتنصيص عليها دستوريا حتى لا تنتهك مع كل هزة او ردّة.
تجاوز واقع الحال ليس بالمحال
جاء عبدالرحمان الكيب الى رئاسة الحكومة بعد تجاذبات وانقسامات داخل المجلس الوطني الانتقالي الغير متجانس والمكون من فسيفساء سياسية، حيث انتخب من بين 9 مرشحين بـ 26 صوت من جملة 51 عضو وامتناع اثنان عن التصويت فهو لم يحقق اكبر اجماع مما قد يضعف موقفه في اتخاذ قرارات كبرى وفي ظل حديث وقلق من امكانية وقوع أسلحة القذافي بيد القاعدة وتاكيد محمود جبريل وجود اسلحة كيماوية في ليبيا هذا الى جانب وجود السلاح في كل مكان، وفي ظل وضع اقليمي غير ملائم، فشرقا لا تزال تونس منشغلة بترتيب بيتها الداخلي، أما الجزائر التي أوت عائلة القذافي فينظر لها على انها دولة مناوئة للثورة، اما جنوب ليبيا فهو مجال قبائل الطوارق الموالية للقذافي، وشرقا لا تزال مصر غارقة في مشاكلها الداخلية.
لكن رغم صعوبة الوضع الذي جاءت فيه، يمكن للحكومة الجديدة ان تتحرك ايجابيا ببناء حكومة توافق وطني يشارك فيها الجميع على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” والاسراع في جمع وضبط الاسلحة واعادة بناء المنظومة الامنية والعسكرية على اساس الولاء للوطن لا للاشخاص، وتدشين حوارات سياسية يشارك فيها كل مكونات الطيف السياسي الليبي وبعث بتطمينات للمناطق التي تحسب على النظام القديم بانها لن ينتقم منها وبانها ستكون شريكا كامل الحقوق في خيرات البلاد وفي عملية التحول الديمقراطي، ثم أن تسعى الدولة الى التصالح مع محيطها باخراج سكان الجبال الامازيغ واهل الصحراء الطوارق من عزلتهم ودمجهم في النسيج الاقتصادي ليكونوا احد المكونات الفاعلة في حركة النماء، مع التعجيل بكتابة دستور يحصل على اكبر اجماع وتوافق ممكن يحفظ الحريات السياسية والمدنية والفردية ويؤكد على حق التنوع والاختلاف في ظل القانون، ثم التحرك خارجيا ببناء جسور الثقة وتطمين الجيران وبقية دول العالم على أمنهم، وبأن ليبيا لن تكون مصدر قلق لهم ولا بؤرة توتر اقليمية وترجمة ذلك ببناء مشاريع و شراكات اقتصادية.
ولا يسعنا في الاخير الا ان نتساءل، هل تستوعب النخب والاحزاب والمنظمات الليبية اهمية وخطورة المرحلة التي يمرون بها، كونها منعرج حاسم ومنعطف دقيق من تاريخ ليبيا، فيصفح بعضهم عن بعض ويتجاوزوا بالتسامح جراح الماضي ويرتفعوا فوق كل المصالح الحزبية والاجتماعية والاثنية ليبنوا مستقبل مشرق لهم ولشعبهم في ظل ليبيا الجديدة؟
Leave a Reply