هل تنتصر الحكمة اليمانية؟
تعيش اليمن على دوي المدافع والرشاشات، التي تخرق من حين الى آخر صدى أصوات المحتجين في اغلب شوارع مدن اليمن.. لقد فتحت الثورات المنتصرة في تونس ومصر الباب أمام شباب اليمن ليأمل في التغيير وفي غد افضل، فزحفت الجموع منذ شباط (فبراير) الماضي الى الشوارع ولازالت ترابط في الساحات رغم مرور حوالي تسعة أشهر على انطلاق الاحتجاجات بالبلاد.
وتعتبر هذه الأزمة التي يعيشها اليمن اليوم من اكبر الازمات التي مرت بها البلاد منذ الحرب التي قامت في البلاد في سنة 1994، بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي.
الأزمة: نظام متمسك بالحكم
وشباب مصر على التغيير
سالت كثير من الدماء الزكية ولازال المشكل يراوح مكانه، شباب يطلب رحيل النظام بحجة انه اثناء حكمه البلاد لم يطور البنى التحتية، ولم تعرف البلاد تنمية بشرية حقيقية فازداد ارتفاع معدل البطالة واستفرد النظام بالحكم وبخيرات البلاد وضيّق على المعارضة فبالرغم من مرور 33 سنة على توليه الحكم لاتزال دار لقمان على حالها. في المقابل نظام يرى انه شرعي وانه لن يرحل الا بطريقة شرعية، كان يراها في بداية الأزمة تمر عبر صناديق الاقتراع، ثم تغيّر الموقف عبر وساطات دولية وخاصة خليجية، الى اعلان الرئيس علي عبدالله صالح عن تعهده بالتنازل عن الرئاسة على ان يفوض نائبه عبد ربه منصور هادي بصلاحياته وان يتولى نائب الرئيس دعوة الشعب اليمني الى انتخابات عامّة لانتخاب رئيس جديد للبلاد ضمن اطار زمني يحصل عليه توافق مع أحزاب المعارضة.
وقد أصدر مجلس الامن في 21 تشرين الاول (أكتوبر) الماضي قرارا غير ملزم وافق عليه الدول الاعضاء بالاجماع، وحمل القرار إدانة للنظام لاستخدامه القوة المفرطة لقمع المتظاهرين، ودعا فيه الرئيس صالح الى التوقيع على المبادرة الخليجية.
وقبل القرار الأممي، كان الرئيس صالح قد ماطل طويلا مؤجلا التوقيع على المبادرة الخليجية مرات عديدة.
وقد كادت هذه المبادرة، ان تشق صفوف المعارضة فقد قبلت بعض الأحزاب الممثلة في البرلمان والمتكتلة في تحالف اللقاء المشترك هذا الحل بحجة أن “السياسة فن الممكن”، ورفض الشباب “المتمترس” في ساحات الشوارع المبادرة، واعتبر ان الاحزاب دخلت على الخط بعد اندلاع الثورة لتوظفها في خدمة سياسات حزبية، في حين كان عليهم ان يوظفوا سياسات الاحزاب في خدمة الثورة.
غير أن أحزاب المعارضة البرلمانية خاصة “اللقاء المشترك” وهو تكتل تم تأسيسه في 6 شباط 2003 من طرف أحزاب المعارضة البرلمانية من أجل القيام بعمل جبهوي ضد النظام ويضم هذا التحالف: التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، الحزب الاشتراكي اليمني، التجمع اليمني للإصلاح، واتحاد القوى الشعبية اليمنية، وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي، وحزب الحق، والتجمع السبتمبري، والتجمع اليمني للإصلاح، الذين يؤكدون انهم هم من يديرون ويوجهون فعليا الساحات، وأن هذه الثورة هي ابنة تلك التحركات والنضالات التي قادوها هم لسنوات وانهم يمثلون عنصرا رئيسيا في تحركات الشارع.
وأمام هذا الواقع السياسي، لا تزال المشكلة تتأرجح فلا الرئيس ولا نائبه وقّع على وثيقة المبادرة الخليجية ولا المعارضة بالشارع قبلت بغير رحيل كل النظام، مما حدا بأغلب “المهرولين” الى العودة للاصطفاف من جديد مع رغبة “الشارع” في حين استمر البعض الاخر يلاحق “التوقيع”.
وفي خضم الأزمة، تم الإعلان عن انطلاق مشاورات برعاية خليجية، عن طريق الامين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني، وان الطرف الحكومي، بانتظار عودة ممثلي الاحزاب الاساسية من رموز “اللقاء المشترك” من الخارج للاتفاق على بقية ترتيبات التوقيع وآليات التنفيذ، خاصة بعد قدوم ممثل الامين العام للامم المتحدة جمال بن عمر،.
وحسب بعض التسريبات، من الممكن ان يوقع عبد ربه منصور هادي نائب الرئيس على وثيقة المبادرة قريباً جداً، فهل ترى المبادرة اخيرا النور وتخرج من نفق مسلسل طالت حلقاته؟
حالياً يستأنف الموفد الأممي إلى اليمن، جمال بن عمر، جهود الوساطة الرامية إلى إنفاذ المبادرة الخليجية، وسط مظاهرات تطالب بإحالة صالح إلى المحكمة الجنائية، وسط اشتباكات وإطلاق نار على المتظاهرين في صنعاء وتعز ومناطق أخرى من البلاد. حيث قالت تقارير اعلامية أن بن عمر سيعمل من خلال لقاءات مع السلطة والمعارضة على التوصل إلى حل القضايا العالقة خلال مهمته الحالية. وتنص المبادرة الخليجية إضافة على تسليم صالح السلطة لنائبه، وتشكيل حكومة وحدة وإجراء انتخابات رئاسية، منح صالح حصانة من الملاحقة، وهو ما يرفضه شباب الثورة. وتكمن أبرز نقاط الخلاف، فيما يتعلق بآلية التنفيذ، في إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية التي يسيطر أبناء وأقرباء الرئيس صالح على المناصب الحساسة فيها، فضلا عن بقاء صالح في منصبه شرفيا حتى انتخاب رئيس جديد.
الجمود: مخاطر تصدع الدولة
وقيام الحرب الاهلية
لم تنجح الجهود السابقة، الدولية والاقليمية والمحلية المتواصلة، في حلحلة الأزمة مما ينذر بازدياد التشاحن وتفجر الموقف بقيام التطاحن بين مختلف مكونات المجتمع اليمني خاصة وان السلاح منتشر لدى اغلب الناس، حيث تتحدث احصائيات عن وجود 60 مليون قطعة سلاح موزعة بين المشائخ والقبائل وحتى عموم الناس في كافة أنحاء البلاد. وفعلاً بدأت، في شهر الأزمة الثاني، تبرز مظاهر التخلخل ففي آذار (مارس) بدأت بوادر الانشقاقات في الجيش خاصة بعد اعلان قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية اللواء علي محسن الأحمر، وكذلك اللواء محمد علي محسن قائد المنطقة العسكرية الشرقية وغيرهم من الالوية والعمداء والقادة في جيش البر والبحر انحيازهم الى تحركات الشباب الثائرين في الساحات العامة.
وقد تطورت الامور الى انفجار القتال في الشوارع والمرافق العمومية وكادت احدى العمليات العسكرية ان تودي بحياة الرئيس صالح حيث اتهمت الحكومة اللواء علي محسن الأحمر بأنه وراء محاولة اغتيال الرئيس مما زاد الطين بلة وساهم في مزيد تأجيج الصراع، خاصة وان النظام لايزال يمتلك قدرات عسكرية هائلة، وهو الممسك بكل مفاصل القطاعات الامنية والعسكرية. فلا زال الحرس الجمهوري والقوات الخاصة تحت امرة أحمد علي عبد الله صالح، في حين يقود محمد صالح عبد الله الاحمر القوات الجوية، أما جهاز الامن القومي فبيد عمار محمد عبدالله صالح، وقوات المدرعات تحت قيادة خالد علي عبدالله صالح، وكذلك يقود يحيى محمد علي عبدالله صالح رئاسة أركان الامن المركزي، أما قيادة الحرس الخاص فهي لـطارق محمد عبدالله صالح.
وبهذه التشكيلة الامنية والعسكرية العائلية استطاع النظام ان يستمر ممسكا بزمام الامور الى الان، وقد استمرت الصراعات العسكرية ومحاولات التصفية والاغتيالات سجالا بين النظام والمُنظمّين الى قوى المعارضة من العسكريين حيث اعلن قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية اللواء علي محسن الأحمر عن افشال محاولة لاغتياله بسيارة مفخخة يوم عيد الاضحى مؤكدا انها المحاولة الرابعة التي تستهدفه.
وفي الاثناء وجدت مجموعات مسلحة، قيل انها من “القاعدة”، الفرصة سانحة لتنقض على مناطق في البلاد خاصة في مدينة زنجبار في محافظة ابين الجنوبية وتعلن قيام “امارات” خاصة بها.
وتتهم أطراف في المعارضة النظام الذي يعلن ملاحقته لتلك الجماعات بأنه هو الذي اوجدها خلال الحروب الداخلية، ووظفها ضد خصومه كما كان يستعملها فزاعة لتخويف الغرب، لكي يتحصل على المساعدات المادية.
ليست هذه كل المخاطر التي تحدق بالبلاد فهناك بؤر اخرى تستعر وتخمد مثل الحركة الحوثية الناشطة على حدود اليمن مع السعودية، والتي تقوّت بعد اندلاع الاحتجاجات في عموم البلاد ضد النظام، فانضم الحوثيون الى حركة الشباب، وخرجوا في مظاهرات مطالبين برحيل النظام. كذلك فعل جزء من اهل جنوب اليمن، ممن ينشطون تحت اسم “الحراك الجنوبي” والذي كانوا يشعرون بالغبن والاقصاء وبان النظام عاملهم بعد حرب 1994 كرعايا لا كمواطنين كاملي الحقوق، فانتهزوا هم الاخرون فرصة ارتخاء قبضة النظام لينظموا الى حركة الاحتجاج معبرين عن رغبتهم في رحيل صالح ونظامه.
الحل: الوعي بالذات والشعور بوحدة المصير
يمر اليمن بأحلك فترات تاريخه إذ اعرب مسؤولون امميون من منظمة “اليونسيف” ان البلاد مقبلة على كارثة انسانية نتيجة الصراعات والاقتتال المسلح، والجفاف وندرة مياه الشرب، وارتفاع الاسعار، وتدهور الخدمات العامة والصحية، وتفاقم الوضع بنزوح مائة الف شخص من المناطق الجنوبية وثلاثمائة الف نزحوا من المناطق الشمالية، مع تدفق الاف اللاجئين من الصومال. وبلغ سوء التغذية في البلاد نسبة 18 بالمئة وهي نسبة مرتفعة تجاوزت حدّ الطوارىء.
لقد فشلت الدولة في احداث تنمية بشرية كان من مظاهرها ما تعيشه البلاد حاليا، رغم ان البلاد تتوفر على مكونات قادرة على تحقيق الامن الغذائي فهي تمتد على مساحة ما يقارب نصف مليون كلم مربع، وتنوع تضاريسها من جبال وسهول وهضاب يمكّنها من تنويع الزراعات لكن للاسف أكثر من 30 بالمئة من مجمل الاستخدامات المائية التي يمكن أن توجه إلى زراعات الأمن الغذائي تستهلكها زراعة القات، كما كان من المفترض أن يحصل مزيد من تطوير واستغلال حقول البترول بمأرب وشبوة وحضرموت، واستغلال الشريط الساحلي الذي يصل طوله إلى 2500 كم، مما يوفر مخزونا هائلا من الاسماك واطلالته على البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي كما تتناثر عليه الجزر والخلجان يعطي قدرة كبيرة على التحكم وتنشيط التجارة الخارجية، هذا الى جانب دوره في تنشيط السياحة البحرية.
الآن، ليس أمام الفرقاء السياسيين وجموع الشباب في الساحات وعموم الشعب اليمني، الآن الا العودة الى الذات والبحث عن حلول “يمنية” لأن كل التدخلات الخارجية، سواء كانت حسنة أو سيئة النية، لا يمكن ان تدرك مكنونات الازمة وحلولها أكثر من اليمنين انفسهم. نعم أهل مكة ادرى بشعابها.
لقد أثبت اليمانيون في حلهم وترحالهم عن قوة ايمان لا تتزعزع فهل تتجلى الحكمة اليمنية من جديد لتتغلب على لغة السلاح والاقصاء وليجلس الجميع ويمارسوا بانفسهم لا بنيابة الاخرين حق تقرير مصير ومستقبل بلادهم في جوّ من الحرية. لقد اكّد عموم الناس المعتصمين في الساحات على سلمية تحركهم واظهروا صبراً وحسّاً عالياً بالمسؤولية في محطة اخرى من المحطات التاريخية الصعبة التي لطالما اثبت شعب اليمن في كثير منها انه قادر على تجاوزها بحكمة اهله الذين كانوا يقدمون دائما الشأن العام على الخاص في تلاحم عجيب وشعور ووعي قويان بوحدة المصير المشترك.
فهل يعود جميع صناع القرار باليمن ليركبوا سفينة نوح التي من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك؟
الحكمة، كانت دوما سفينة أهل اليمن.
Leave a Reply