وحيدا، أنتَ، هناك. مكشوفا للعابرين والقناصين، وطويلا.. تبللكَ أغصان الشجر المطلة على الشارع. وتنتبه: أنت وحيد هناك كما لو أن البجعات هجرتكَ. ومرة أخرى تتذكر.. كأنك عائد مع القطيع، وتتمتم: أين رأيت البجعات التي هجرتني، أين؟
لم يكن مطر، ولم تكن المرأة الحبلى، لكنك ستذكر وأنت تقطع الشارع وحيدا أين رأيتهن. بجعات من الكريستال في واجهة المحل المضاء بالأزرق، في شارع ضيق في باب توما. لم تتحسر لأنك لم تملك نقودا لتشتريها. أنت وحيد ونادم، لأنك لم تلمس أعناقها الطويلة!..
/
ولم أشتهِ أن أكون مسيحيا إلا.. وأنا أهبط الدرج القديم في كنيسة حنانيا. من المذبح القديم عرفت جهة الشرق في دمشق، وكأنني لم أنتبه أن الشمس تشرق كل يوم. أمام الشمعة أخبرتني للمرة الأولى عن إسم قديسكِ. لم أشته أن أكون مسيحيا إلا عندما عرفت أن أمك تبكي طوال الليل.. بسببي!
/
ومن على سطح البناية الذي يطل على الشام. أعدّ الحمام الأموي. أعد وأخطئ ثم أعود من جديد. ثم أرى إلى الجارة التي تنشر ملابسها الداخلية الحمراء. وأتساءل: هل يوجد حمام أحمر؟ وأقصد إلى حمام أحمر فاقع كهذي الملابس الداخلية.. ثم أفكر على هذا النحو: حمامة حمراء منشورة على حبل غسيل، بملاقط في الجناحين. وأفكر.. أنها ترفرف!
/
وأنت تذرعين الصالون جيئة وذهابا، حتى كأنك للمرة الأولى تلبسين كنزتك البيضاء. من طعم القهوة عرفتُ أنك تحبين رجلا آخر. رجلا لا يفكر مثلي بصنع نافذة في السقف. من عينيك المريضتين. من سحابة تبغك عرفت أنك تفكرين ببراعم أشجار تتفتح. عرضا قلتُ: الأشجار تزني، فانهمرتِ علي دمعة بيضاء كبيرة. لكن من سيصدق أننا سنفترق لأن القهوة. لأن الكنزة البيضاء. لأن نافذة في السقف.. مستحيلة!
/
ثم.. أن تعودي بعد القطيعة بورد أزرق، مساء الأربعاء، هذا يعني: أنني مريض جدا. أن تفتحي الشبابيك للشمس والهواء. أن تنظفي البيت من الغبار والقوارير والرائحة القديمة. هذا يعني.. أنني سبب قديم للتلوث. أن تسقي الزروع على البرندة. أن تطوي ملابسي وترتبي أوراقي. أن تقبليني في الجبين وتخرجي. هذا يعني: أنني ما زلت مريضا!
/
ثم.. بعرق ينضب. بقوارير حميمة. بدوار لذيذ.. أنتَ تقوّس العناصر. وأنت تقوّس الأرض أيضا. تتواطؤ مع انحناءات الدوائر. تتمايل مع دوامات السكْر.. حتى لتكاد تقع. ثم.. ببكاء بعيد. بذكريات خلابة تتعثر. ما كان ينبغي أبدا أن تقطن في الطابق الخامس. ما كان ينبغي أبدا أن تعود في آخر الليل.. هكذا.. ناسيا مفاتيحك!
/
وهذا كله لم يكن أي شيء. كان وردا أزرق لمزهرية واسعة كالبحر. كي تهب موجة من الملوحة تغيّر طعم الأشياء وتشفي القلب من البثور الطفيفة..
Leave a Reply