تابعت، بقليلٍ من الإهتمام، بلا شك، مسألة التصويت لمغارة لبنانية لتصبح من عجائب الدنيا ولاحظت كل التجنيد والتجييش وإنشغال اللبنانيين المقيمين والمغتربين إلى درجة أن رئيس الجمهورية قام بزيارة تشجيعية للمغارة، وكأن “جعيتا” أصبحت قضية القضايا بحيث أن الكبير والصغير “والمقمط بالسرير” أراد التصويت لها متناسين حدة الإنقسامات والخلافات السياسية حتى على البديهيات في بلد الغرائب والعجب العجاب.
بدايةً، أريد أن أوضح بأنني لا أملك شيئاً ضد معلم سياحي في وطنٍ يتمتع بجمالٍ طبيعي خلاب شوهته غابات باطون السماسرة وكسارات السياسيين والفساد المستشري في كل شيء، بالإضافة إلى التشوه الخلقي الطائفي والعنصري، لكنني لا أملك إلا أن أبرز هذه المفارقة العجيبة في نظام “خيال الصحرا” وهذا التوحد الفريد من نوعه على قضية أسخف من صنع أكبر صحن حمص في العالم، لن تسمن اللبنانيين المعترين ولن تغنيهم من جوع لكنها أخذت حيزاً كبيراًمن وقت سياسيي ٨ و١٤ آذار الثمين لكي يظهروا على التلفزيون في إعلاناتٍ موحدة مع فنانيين وإعلاميين كي يحثوا فيها الجميع على الإقتراع بكثافة لصالح جعيتا، بينما نتفرق إلى حد الإحتراب على قضايا حيوية مثل الكهرباء والتنقيب عن النفط ومعالجة الغلاء الفاحش وتدني الأجور (بينما جيوب الساسة تمتلئ بالمال والعقارات المليونية)، ناهيك عن مسائل الدفاع عن لبنان والمقاومة والمحكمة الإسرائيلية.
وهنا تحضرني مقابلة أجرتها إحدى برامج محطة “أم تي في”، أخت محطة “العبرية” بالتبني، مع زوجة أحمد فتفت فكانت “قبضايا” و”صقراً” من الصقور أكثر منه، حيث سخرت من الإعتدال “لأن التطرف مطلوبٌ في هذه المرحلة” متهكمة في الوقت عينه على حصة طرابلس في الحكومة الميقاتية ومعتبرةً الوزراء الطرابلسيين “وزراء حزب الله”. لا شك عندي أن مدام فتفت صوتت للمغارة العجيبة لكن لم يرف جفنها أمام “عجيبة” ثكنة مرجعيون.
المفارقة الثانية الطريفة، أن اللبنانيين اصيبوا بغصة وصدمة لعدم فوز “مغارة جعيتا” ودخول المرتبة الأولى لعجائب الدنيا، مع أن المغارة تديرها شركة خاصة وسعر بطاقة دخولها ١٢ دولاراً وهو فوق قدرة اللبناني العادي المالية، كما أنه في بلد السياحة “الممذهبة” لن يستفيد من هكذا مغارة وينتعش إقتصادياً إلا محيط الموقع الجغرافي الضيق حول جعيتا، أي منطقة “نهرالكلب” والجوار. فماذا ينفع الفقراء في عكار والهرمل مثلاً إدخال مغارة في سجل العجائب؟ رب قائلٍ أن العمل على إنجاح “جعيتا” هو عملٌ وطني بإمتياز لأنه يعزز صورة لبنان السياحية. لا أعتقد ذلك، لأن لبنان يصبح عزيز الجانب ليس بالمغاور والسياحة (على أنواعها)، بل بالدفاع عن الأرض والعرض وردع عدوه التاريخي.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن هذا النظام الطائفي فيه أكثرمن “عجيبة” جعيتا تستحق أن تدخل سجل عجائب الدنيا.. فيه عجيبة مغارة فؤاد السنيورة المالية وجبل النفايات والفضائح المجلجلة التي تزكم روائحها الأنوف.
فيه عجيبة “البيك الإشتراكي” الذي “خلق” ربيعاً بنفسه لحزبه، الذي ترأسه منذ ١٩٧٧، بعد لحظات التخلي ثم التجلي ثم التحلي لسنة قبل التنحي وخلال عامٍ واحد يخلق الله ما لا تعلمون.
فيه عجيبة الطعن بالمقاومة بعد إنتصارها الأسطوري الملحمي في وقتٍ كرمت كل الشعوب في العالم مقاوماتها ورفعتها إلى أسمى المراتب.
فيه عجيبة أن الذين يحرسون الأمة عند الثغور ينامون لوحدهم في العراء والكهوف والمغاور وسط الأفاعي والوحوش الكاسرة في حين ينام وحوش السياسة، الذين يريدون نزع سلاح المقاومين، في أسرّتهم الناعمة المرفهة مع عوائلهم. أما عوائل العملاء المقيمين في إسرائيل فيجدون من يطالب “بحقوقهم” واستردادهم مع كافة إمتيازات المواطنية فالعمالة في لبنان جزء من حالة.
ومن عجائب لبنان أيضاً أن “العصفور الطائر” متوتر لكنه “يتوتر” على الإنترنت وعلى خط التوتر العالي داعماً خريج السجون ليصبح رئيساً للجمهورية، ويمارس هواية الغطس بالسياسة بينما تيار “لبنان أولاً” يتآمر على الشقيقة سوريا أولاً وثانياً وثالثاً، مع ما تبقى من النظام الرسمي العربي البائد الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة مع جامعة الدول العربية “المشتتة”، رجل المنطقة المريض.
فيه العجيبة مصطفى علوش من فريق “الدنيا هيك” الذي كاد أن يقصيه تياره وينفيه إلى القطب المتجمد الشمالي بسبب مس المحرمات وانتقاده السعودية، ثم عاد عنتراً في برنامج “جيب السم يا عبود” متفوهاً بكل الكلام السوقي البذيء فتلقى عليه التهاني والتبريكات من معلمه وأحمد الحريري. ونِعم التهنئة!
وأخيراً، وليس آخراً، من عجائب الدهر اللبناني أن الكرة تجمع ما تفرقه السياسة والطوائف، فربما أضحت الحاجة ملحة لتأسيس “حزب كرة القدم”.
لو كان الخيار لي، لصوتت للشهداء الأبرار ومليتا ووادي الحجير وأمهات القرى، كمارون الرأس وبنت جبيل وقانا وشهدائها وكل الصامدين والصابرين على أبواب الوطن، لكي يتصدروا سجل المواقع والأشخاص الذين غيروا وجه التاريخ.
Leave a Reply