الشارع المصري يغلي غليان المرجل، بعد أن اشتعلت أغلب ساحات المدن المصرية مرة اخرى لحماية ثورتها، والاسباب هي ذاتها التي تظاهر من اجلها الشعب مرات ومرات وهي حماية مكاسب “ثورة 25 يناير” والتصدي لعملية الالتفاف التي يمارسها المجلس العسكري لافراغ الثورة من اهدافها التي قامت من اجلها ودفعت ضريبتها من دم ابناء مصر.
وكعادته جمع ميدان التحرير بالقاهرة، يوم الاثنين، كل المستائين والمحتجين من مختلف شرائح الشعب المصري للتظاهر ورفع شعارات الثورة، لكن الآلة القمعية لرجال الشرطة عادت الى اسلوبها القديم وبكل عنهجية واستهتار بحياة الناس أفرطت في العنف في محاولة لفك الاعتصام بميدان التحرير وخلفت هذه العملية في خلال أربعة أيام (من الاثنين الى الخميس) مقتل 3٨ متظاهر (33 في القاهرة و4 في الاسماعيلية والاسكندرية وواحد في مدينة بمرسى مطروح) و١٨٠٠ جريح، جاءت بعضها كنتيجة لنيران البلطجية وقنابل الغاز، التي قيل أنها غـازات الخـردل، وهو ما نفاه قادة العسكر وكذلك رئيس الحكومة عصام شرف الذي دعى الى تحليل القنابل المستعملة.
كان من الممكن بداية حوار مع المعتصمين لكن المجلس العسكري اختار المعالجة الأمنية لفك اعتصام الميدان بالبطش والقوة فسقط الشهداء والجرحى مما كان سببا في تفجّر الاحداث الدامية .
وتعتبر هذه العملية الاكثر دموية منذ “ثورة 25 يناير” وأول صدام مباشر بين الشعب والمجلس العسكري، وبلغت هذه المواجهات ذروتها، الثلاثاء الماضي. وفي مشهد أعاد التذكير بأحداث “موقعة الجمل”، استخدمت قوات الأمن قنابل الغاز السام لقمع المتظاهرين، فيما تحدث ناشطون عن قنابل حارقة ألقيت عليهم تزامناً مع قطع التيار الكهربائي عن ميدان التحرير وشارع محمد محمود ومنطقة باب اللوق المجاورة، في ما بدا محاولة فاشلة من القوات المسلحة لاقتحام الميدان وطرد الثوار منه.
وقد لاقت عملية القمع والقتل بميدان التحرير شجبا وتنديدا واسعين من معظم عواصم العالم، التي اعربت عن القلق الشديد حيال الاوضاع وما يجري في مصر.
وقد دعت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الى وقف استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين والسماح بحق وحرية التجمع والتظاهر لكل المواطنين، ودعت السلطات الى منع الشرطة والجيش من استعمال الرصاص الحي والمطاطي ضد المتظاهرين. ولمحت المنظمة الى امكانية محاكمة المسؤولين الحاليين، لأن ما ارتكب هو نفس نوع الجرائم التي يحاكم من اجلها رموز النظام بعد “ثورة 25 يناير”.
وفي مؤشر على فشل السلطات في مصر على احتواء غضب المتظاهرين، استمر تدفق المحتجين على ميدان التحرير، وذلك غداة مليونية “الإنقاذ الوطني” التي شهدها الميدان، والتي قاطعتها جماعة “الإخوان المسلمين”، ما حوّلها إلى متهمة من قبل شباب الثورة بالتواطؤ مع المجلس العسكري في عمليات القمع التي يتعرض لها الثوار في الميدان، والتي وصفها ناشطون ومحللون كثر بأنها ترقى إلى مستوى “جريمة حرب”.
وكان واضحاً من خلال الشعارات التي رفعت خلال المليونية، وإصرار المتظاهرين على مواجهة آلة القمع الأمني والعسكري، أن شباب الثورة وصلوا إلى نقطة اللاعودة مع المجلس العسكري، برغم المساعي التي بذلتها بعض القوى السياسية، التي اجتمع ممثلوها برئيس أركان القوات المسلحة الفريق سامي عنان قبل المليونية، لإقناع الثوار بفض التحرك، في ما ذكر أيضاً باللقاءات التي عقدتها القوى السياسية مع نائب الرئيس المخلوع اللواء عمر سليمان خلال أيام الثورة.
العسكرتاريا والدولة: بيت العز يا بيتنا
تعقّد الوضع وتصاعدت الازمة السياسية في مصر، خاصّة بعد ان انكشفت النوايا الحقيقية للمجلس العسكري ورغبته في ان تستمرار قيادة البلاد في يد المؤسسة العسكرية سواء بشكل مباشر او من وراء الستار على الطريقة التركية، وقد سارع رئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي الى نفي أي تطلع للمؤسسة العسكرية في حكم البلاد وانه مستعد للتخلي عن منصبه، إذا اراد الشعب ذلك عبر الاستفتاء.
وان لم يصرحوا بذلك او صرحوا بعكسه فكل الدلائل والخطط المستقبلية تدل على تمسك قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيسه المشير حسين طنطاوي بـ”ميراث” حسني مبارك الذي يعتبر امتدادا لميراث تاريخي، فالدولة الحديثة والوطنية أو الجمهورية المصرية ولدت على يد قيادات من الجيش المصري لكن للأسف تراجع الدور التقدمي للمؤسسة العسكرية لتتحوّل الى مؤسسة استغلالية وقمعية واصبحت الدولة هي “بيت العسكريين”، البيت الذي تغلغلوا في كل مفاصله بعد ان استبدلوا البزات العسكرية ببدلات مدنية.
بعد “ثورة 25 يناير” ومنذ تولي قيادات الجيش ممثلة في المجلس العسكري الاعلى، شابت اهداف الثورة حالة من عدم اليقين، فقد تميزت مواقف المجلس العسكري بالضبابية والبطء، فلا مطالب الثوار نفذت ولا اجهزة التسلط ورموزها أُبعدت، كما زاد الطين بلة الاحكام القضائية التي برّأت وزراء مبارك المتهمين بجرائم، مثل وزير المالية يوسف بطرس غالي ووزير الاعلام أنس الفقي ووزير الاسكان احمد المغربي، وازداد الشك في نوايا العسكريين، بما وقع تضمينه في وثيقة مبادىء الدستور الجديد او ما عرف بـ”وثيقة السلمي” نسبة الى الدكتور علي السلمي، نائب رئيس مجلس الوزراء في حكومة عصام شرف. وقد اشرف السلمي على اللجنة التي قامت بصياغتها وهي وثيقة فوق دستورية، أُريد لها ان تكون ملزمة لأي حكومة قادمة والتي اعطت المؤسسة العسكرية حق اختيار لجنة إعداد الدستور في حال فشل مجلس الشعب في اختيار تلك اللجنة في مدة أقصاها ستة أشهر، كما أن للجيش نسبة في اختيار أعضاء هذه اللجنة، وكذلك حق مراقبة وضمانة بعض البنود في الدستور، وحراسة الشرعية الدستورية، كما اعطت المجلس العسكري حقوقا جعلته فوق كل المؤسسات المنتخبة، فله صلاحيات التصرف في ميزانية المؤسسة العسكرية دونما رقابة من مجلس الشعب ولا مساءلة قانونية ولا رجوع الى أي كان، مما يجعل المؤسسة العسكرية تحظى بحقوق افضل من جميع الهيئات حتى المنتخبة منها.
شباب الثورة: جحا أولى بلحم ثوره
كانت القوى الشبابية دائما وقود الثورة، لكن رغم التضحيات الجسام التي قدمتها، ورغم انها اكثر الفئات المتضررة قبل الثورة فقد وقع تهميشها بعد الثورة من طرف السلطة الحاكمة ومن الاحزاب التي كانت تجري المفاوضات معها، وكأنها الوحيدة صاحبة الحق للكلام باسم الشارع. ونتيجة استمرار السياسات الحكومية الفاشلة بعد الثورة والتي لم تغير في حياة الشباب شيئا، و تواصل دور المجلس العسكري في عملية الشد الى الوراء، فقد عادت المجموعات الشبابية للإعتصامات بميدان التحرير بعد ان ايقنوا ان ثورتهم تسرق منهم، خاصة بعد الاجراءات التي اتخذها المجلس العسكري من اهمال محاكمة الجناة من رموز النظام والتأسيس عبر وثيقة “علي السلمي” الى مزيد من تأبيد سيطرة العسكر على الدولة، فلم يكن امام شباب الثورة الا العودة الى ميدان التحرير للمطالبة بتحقيق اهداف الثورة ، وبعد ان دفعوا من جديد ضريبة الدم واستشهد منهم ٣٨ شاب قرروا الدعوة والحشد لاعتصام مليوني في “جمعة رحيل المجلس العسكري” للمطالبة بحقهم في تحقيق اهداف الثورة، وهي انهاء الحكم العسكري، وتشكيل مجلس رئاسي مدني تنبثق عنه حكومة مدنية تسهر على تشريك الجميع خاصة شباب الثورة في التخطيط والتسيير وايجاد الشغل لمئات الالاف من العاطلين. فلا يمكن ان يدفع الشباب الثمن لتجني الثمار سلطة او احزاب، أليس جحا اولى بلحم ثوره؟
كما أصر الشباب على اعتذار المجلس العسكري على قمع وقتل الشرطة للمواطنين، وقد اعتذر المجلس لاحقاً في رسالة على صفحته على موقع “فيسبوك”، وطالب الشباب المجلس بإلغاء وثيقة علي السلمي، نائب رئيس الحكومة المستقيلة، ووضع دستور ديمقراطي يضمن الحريات والفصل بين السلطات قبل الدخول في اي استحقاقات انتخابية كما دعوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيسه المشير حسين طنطاوي الى البدء فوراً، وبدون تلكؤ في محاكمات المذنبين من رموز النظام مبارك ومن الذين ساهموا في قتل شباب ميدان التحرير في الحوادث الاخيرة والتي زادت في حدة الاحتقان الشعبي.
الاحزاب السياسية : لعبة الرقص على الحبال.
تأتي الاستحقاقات الانتخابية يوم الاثنين القادم، والشارع المصري منقسم بين مؤيد لاجرائها في موعدها وبين مطالب بالتأجيل، ورغم دعوة وزير الداخلية العيسوي المجلس العسكري الى تأجيل الانتخابات بحجة ان وزارة الداخلية غير قادرة على تأمين سير العملية الانتخابية في ظروف آمنة، أصر المجلس العسكري في مؤتمره الصحفي الخميس الماضي، على اتمام الانتخابات في موعدها. كما أكد المستشار عبد المعز ابراهيم، رئيس اللجنة العلياء للانتخابات، أن الاستحقاقات الانتخابية بمراحلها الثلاث للشعب والشورى سوف تجرى في مواعيدها المقررة أنه يجرى الآن توفير كل الضمانات والخطوات اللازمة لإجراء انتخابات مجلس الشعب في موعدها المقرر اعتبارا من يوم الاثنين المقبل وهو الموعد المحدد لإجراء انتخابات مجلس الشعب في تسع محافظات هي: القاهرة والإسكندرية وأسيوط والبحر الأحمر والأقصر والفيوم ودمياط وبورسعيد وكفر الشيخ. كما أكد على الجهوزية لاتمام العملية الانتخابية في الخارج في موعدها. وأوضح انها ستتم عبر البريد وقد جهزت وزارة الخارجية كل الظروف الملائمة لذلك، رغم ان اغلب المصريين في الخارج يؤكدون عدم الوضوح وضبابية الموقف كلما استفسروا عن العملية الانتخابية عبر القنصليات والسفارات.
كل هذه العوامل جعلت الاحزاب تتخوف من المستقبل المجهول، وقد تطورت المعارك الانتخابية الى التخوين والاتهام بإبرام الصفقات مع المجلس العسكري.
ففي حين التزمت حركة “الاخوان المسلمين” بتوجهات العسكر، ورحبت بالالتزام بالموعد المحدد للانتخابات دون تأخير، ولم تتجاوب مع الدعوة الى مليونية “يوم الجمعة” والتي ترى فيها استدراج لها لساحات العنف، حسب ما جاء في احدى تصريحات الدكتور محمد البلتاجي، الأمين العام لحزب “الحرية والعدالة” التابع لحركة “الاخوان المسلمين”، الا ان الحركة اشارت الى ان المجلس العسكري يريد برلماناً ضعيفاً ليحكم سيطرته على البلاد، فقام باقراره “وثيقة السلمي الدستورية” والتي ترى الحركات الاسلامية انها موجهة ضدها وتخدم التيارات العلمانية والليبيرالية التي رحبت معظمها بالوثيقة خوفا من انتصار محتمل للحركة الاسلامية.
وأشار “الاخوان” الى أن مرد التزام الحركة بالموعد الانتخابي هو الرغبة في اخراج الدولة من ايدي العسكر الى ايدي المدنيين.
من جهة أخرى، ترى التيارات الليبيرالية والعلمانية ان الحركة الاسلامية عموماً، وحركة “الاخوان” خصوصاً، قد عملت من وراء الاحزاب الاخرى على إبرام صفقة مع المجلس العسكري تتقاسم بموجبها معه السلطة، مشيرة بذلك الى ما ورد في الصحيفة الاميركية “انترناسيونال هيرالد تريبيون”، بأن المشير حسين طنطاوي والمجلس العسكري قد أبرما صفقة مع الجماعات الاسلامية وخاصة “الاخوان المسلمين” لاستبعاد التيارات العلمانية والليبرلية من أي دور فعّال في الحياة السياسية المصرية مستقبلا.
إن تعقّد المشهد السياسي في مصر وتدهور الأوضاع وتصاعد الأزمة السياسية ينذر بخطر محدّق بالبلاد اذا لم تسارع كل التيارات السياسية على تجاوز المصالح الحزبية الضيقة ، والعمل على فك الالغام التي تعرقل اي تسوية سياسية قبل التقدم في طريق إعادة بناء مؤسسات دولة بلاد الكنانة على أسسس الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، بناء مصر لكل المصريين ، مصر الغد.
Leave a Reply