“القنبلة” التي فجّرها إمام “المركز الإسلامي في أميركا” في مدينة ديربورن السيد حسن القزويني لا تختلف كثيرا عن العبوات المتفجرة التي يتراشق بها الطائفيون ويقتلون بها بعضهم البعض على خلفية التوترات الطائفية التي تجتاج عالمنا العربي والإسلامي، والمشكلة تبدأ عندما يتصرف القادة الروحانيون وحاملو رايات الأديان بكل قيمها السمحة، كأنهم قادة ميليشيات.
و”القنبلة” التي نتحدث عنها ليست مجرد مجاز، بل هي باعتراف ملقيها، القزويني، قنبلة. وهي من النوع الذي أحدث كل ذلك الدوي والأذى، في مجتمع يدرك جميع أبنائه مقدار الحساسيات الطائفية التي بدأت تنخر حياتنا وحسابتنا اليومية والسياسية، ولكنها لم تصل، ولا ينبغي لها أن تصل، في أي حال من الأحوال، إلى درجة اعتراض رجل دين وإمام مسجد على زواج الشيعة من السنة، وأن يطالب “أتباعه” بتجنب هذا النوع من الزيجات.
لا نعرف ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت السيد القزويني إلى إطلاق ذلك الموقف الصادم وغير المبرر، هل وراءه أسباب اجتماعية، أم هو مجرد رأي، أم أنه فتوى فقهية؟ وهل يعرف السيد القزويني الذي تقع على عاتقه مهمة نشر مبادئ الدين الإسلامي وقيمه السمحة وأخلاقيات أهل البيت، أن الإمام محمد الجواد كان متزوجا من حفيدة الخليفة هارون الرشيد.. وأن ملايين الزيجات المختلطة حدثت عبر التاريخ في جميع البلدان الإسلامية بدون أن يثير ذلك السلوك أية ريبة أو حساسية اجتماعية أو عائلية أو دينية، ومن دون أن يتخوف هؤلاء الأزواج على هوية وانتماء أبنائهم الديني (عكس هواجس القزويني).
مهما كانت دوافع السيد القزويني في تلك اللحظة، فـ”فتواه” عسيرة على الهضم، ومستهجنة. وصحيح أنه اعتذر في اليوم التالي عنها ولكن ذلك لا يلغي تأثيراتها السلبية، لا سيما وأن البعض جاهزون لتقبل مثل هذه.. القنابل التي تضر بوجودنا وتكاتفنا، كعرب ومسلمين في هذه البلاد. ويعرف السيد القزويني أكثر من غيره مقدار ما نعاني من كراهية بعض المتعصبين ضدنا في هذه البلاد، دون أن يفرقوا بين سني أو شيعي أو مسيحي، وقد خبر القزويني تلك العدائية التي تستهدفنا بدون وجه حق بها، عبر المحنة التي تعرضت لها الجالية عامة والمركز الإسلامي بشكل خاص، خلال “زيارة” القس المتعصب تيري جونز إلى مدينة ديربورن بنية التظاهر أمام المركز.
يفيد التذكير، أن القزويني بدا في تلك الأوقات، سواء عبر الكلمات التي ألقاها، أو اللقاءات التلفزيونية التي أجراها، شخصا متسامحا ومنفتحا ودمثا في مقابل دعاوى جونز المقيتة والمحرضة والجاهلة، ولكن الأهم.. أن كل مكونات المجتمع بمسلميه ومسيحييه وبقية أطيافه الدينية وقفت سدا منيعا، يدا بيد، لتحمي المركز من “قنابل” التعصب التي كان يرميها القس جونز بمناسبة وبدون مناسبة. فلا يجب أن ننسى ذلك اليوم المهيب عندما تقاطر آلاف الأشخاص، ومئات القيادات الروحية، إلى المركز الإسلامي مقدمين الدعم والمؤازرة ومصرين على رسالة وحدة المجتمع والعيش بإخاء وسلام..
في تلك الأيام قال الناس كلمتهم التي لا يريدون لها تبديلا من منطلق إيمانهم أن “المركز الإسلامي” هو واحد من بيوت الله المفتوحة لجميع عباده.. حيث من الطبيعي أن تكون المساجد والمراكز الدينية واجهتنا الحضارية والإيمانية في هذه البلاد، ومن حقيقة أن هذه المراكز لا تصح إلا أن تكون منابر للمحبة والتآلف والحوار والالتقاء، لا منصات لبث البغضاء والتطييف والتحريض مهما كانت أشكالها ومبرارتها. ولحسن الحظ يعي أبناء الجالية، أفرادا ومؤسسات، خطورة ومآزق هذا النوع من الدعوات وينبذونها بغض النظر عن مطلقها ومشجعها، وبغض النظر عن لقبه ووظيفته وانتمائه الطائفي، فبث الانشقاق وتعميق الفرز في جاليتنا مرفوض مرفوض مرفوض سواء أكان على خلفيات دينية أو مذهبية أو عرقية أو غيرها.
كنا نود ألا نستورد حساسياتنا وهواجسنا الطائفية إلى.. بلاد الاغتراب، وعلى العكس أن يكون بمقدرونا مواجهة ذلك الوباء الذي يجتاح عالمنا العربي والإسلامي، مستفيدين من تجربتنا في الأرض الجديدة، على الأقل لأننا بعيدون عن مرمى نار التوتر والشحن الطائفيين اللذيني نتشران بين أبناء جلدتنا. ولكن بكل أسف يبدو أن حساسياتنا الطائفية عابرة للتاريخ والقارات، فهي ما زالت تنتقل معنا جيلا بعد جيل، ومن قارة إلى قارة..
وقد علمنا أن العديد من رجال الدين قد قاموا بوضع وثيقة عهد في العمل المشترك، هنا في ديربورن، خلال السنوات الماضية، للوقاية من الانجرار إلى الفتن الطائفية، وتشكل الوثيقة عهدا وميثاقا أمام الله تبارك وتعالى ألا ينزلقوا إلى الفتن الطائفية وبث روح الكراهية أبدا وأن يكونوا يداً واحدة. ولا نعرف حقا فيما إذا كان السيد القزويني من الموقعين على تلك الوثيقة أم لا. وأصلا هذا الأمر لا يهم.. فمهمة رجل الدين تقوم في جوهرها على بث رسالة الغفران والتسامح، فما بالك برسالة الإسلام التي تمقت الفتنة وتعتبرها أشد من القتل. القتل الذي قالت فيه الآية الكريمة: “لئن بسطت يدك لتقتلني ما بباسط يدي لأقتلك”.
إننا بالتأكيد نقدر شجاعة السيد القزويني ورجوعه عن خطئه والاعتذار عما قاله أمام حشد كبير من المؤمنين الذين استغرب معظمهم ما أدلى به، رغم أن أكثرهم على الأرجح لا يعرفون ما يعرفه القزويني.. من أن تأسيس وبناء المركز الإسلامي بدأ بمنحة تقدم بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر..
/
قد يكون صائبا ذلك الوصف الذي يقول إن أميركا هي البوتقة الصاهرة التي تخلط الشعوب والأفراد بكل أطيافهم وانتماءاتهم، ولكن الصحيح أيضاً، أن ديربورن تبقى عاصمة جميع العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، وهذا يدعونا جميعا إلى التبصر والالتزام بالمسؤولية الأخلاقية والعملية.. أفرادا ومؤسسات لمواجهة كل شذوذ وانحراف، مهما كان مصدره.
الكرة الآن في ملعب المؤسسات والنشطاء العرب، بمن فيهم رجال الدين!!
Leave a Reply