الحقيقة أين؟
عانت المنطقة العربية ولمدة عقود من إستبداد الأنظمة الحاكمة وسيادتها على شعوبها بالحديد والنار، وقد إستبشرت الشعوب عند إندلاع أول حراك شعبي في بعض مدن الجنوب التونسي والذي تحوّل بسرعة إلى ثورة عارمة إجتاحت كل محافظات البلاد، لتُسقط النظام ويفـر الرئيس بن علي إلى السعودية تاركاً ورائه حريقاً هائلاً من الغضب الشعبي كان سيأتي على الأخضر واليابس، ولولا حكمة الرجال الذين أيقنوا أنّ لا وقت للثأر وسفك الدماء لآلت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
تلت التجربة التونسية ثورة مصر التي أطاحت هي الأخرى بنظام مبارك الذي كان يُظنّ أنّه عصيّ على الإسقاط وقدّم الشعبان ضريبة لذلك قوافل من الشهداء لتكون تلك الدماء وقودا لإشعال بقية الثورات في البلاد العربية.
الجميع إعتقد أنّ صباح ربيع عربي جديد قد إنبلج، ستُـزهر فيه الحياة وتَدَمَقْرَط السياسة في بلاد العرب، وماهي إلا أشهر حتى بدأ الشك يدُبُّ في النفوس وتحوّلت بعض البلاد العربية إلى مسرح لمزيد من القتل والفتك والهتك، وتتالت علينا المواسم سريعة لنشاهد الفصول الأربعة تباعا وأحيانا متداخلة فبعد أمل الربيع شاهدنا خريفا مصفرّا وصيفا حارقا وشتاء قاتما “أسود من قرن الخروب”.
نعم لقد نجحت الفتنة في أن تُذكي الصراعات وتغذّي عقلية “الثأر” فبعد المسار السلمي الذي سُلك في تونس ومصر وحقق نصراً مؤجلاً ومرهوناً بما سيأتي، وهو مصير الشعوب المدنية التي التزمت أسلوبا سلميا في التظاهر وواجهت الرصاص بصدور عارية بعد أن صممت على أن لا تعود إلى بيوتها إلاّ بعد سقوط جلاّديها، تحوّلت بعض الثورات عن مسارها ولم نعد نسمع إلاّ لغة السلاح فإختلطت الأمور علينا ولم نعد نعرف حقيقة ما يجري.
لقد إنزلقت المنطقة، وتحت عناوين “التطهير”، “الثورة”، “إنهاء الرجعية”، “التقدمية” وغيرها من الشعارات السياسية والمذهبية والمناطقية، إلى حالة خرجت عن السيطرة. إنّها نار “الثأر” التي خلّفت عشرات القتلى والضحايا نتيجة عقلية إستئصالية لم تفرّق بين قوّة الحق وحق القوّة، بين أن تكون صاحب قضية عادلة وبين أن تجعل من نفسك طرفا وقاضيا، وخلال فَوْرة الثورة كاد أن يسود قانون الغاب.
لقد حاولنا أن نرصد الأسباب الكامنة وراء موجات الثأر أو الثأرات التي إجتاحت بعض الدول العربية، وعلاقة ذلك بالحالات الثورية، تلك التي نجحت في إسقاط الأنظمة القائمة، وتلك التي لا زالت تشتعل.
القبلية: مُحرّكات الموروث الثقافي والإجتماعي
لقد مثّل نظام القبيلة أحد اهمّ الروابط التي كانت تجمع الأفراد في المجتمعات العربية القديمة وإستمر دوره حتى في القرون الوسطى ومازال يفعل فعله في مناطق عديدة من البلاد العربية إلى يوم الناس هذا .
كان الثأر أحد “محرّكات” الصراع الذي كان ينشب كل مرّة بين القبائل المتجاورة أو المتباعدة أو حتى بين بني العمومة، كانت القبيلة تُغير لتفتكّ الأنعام أو لتسيطر على الماء أو المراعي أو لتَسبي الذريّة وكان ذلك يستفز القبيلة الأخرى المغزُوّة فتقوم بالثأر فورا إذا كانت قادرة على ذلك أو تُبيّت “الثأر” إلى حين مقدرة.
وقد حفلت كتب التاريخ والسير والملاحم بروايات حروب الثأر التي كانت تدور رحاها لسنوات، وقد دام بعضها أربعين عام كحرب البسوس التي شنّها الزير سالم ثأرا لمقتل أخيه كُليب وغيرها من الثأرات كثير.
وعند ظهور الإسلام وتركيز تعاليمه على وحدة المعتقد والدين ونبذ عقلية الثأر والعصبية القبلية خفتت العصبية القبلية والعشائرية لكنها لم تنته بل تلوّنت وإصطبغت بصبغة دينية أو مذهبية، وقد طبعت تلك الصراعات جزءا هامّا من التاريخ العربي والإسلامي، خاصة بعد وفاة الرسول (ص)، فإستعرَت الثأرات القديمة بين بني أميّة وبني هاشم، وبين القيسية واليمانية، وبين قبائل العراق وقبائل الشام.
وكان دور القبيلة يقوى كلّما ضعفت الدولة وأحيانا تقوم الدولة نفسها بتقوية دور القبائل وتحفز “عقليـة الثأر” لديهم، لضرب بعضها ببعض أو لتوظيفها في توطيد الحكم.
وسياسة الثأر هذه لاتزال سائدة في جزء كبير من بلاد العرب، وقد رأينا نماذج منها خلال أو بعد بعض ثورات الربيع العربي ضمن سياسة بذر الفتنة لتفريق الشعوب تحت مُسميات مختلفة، حتى يسود الحسود أو العدو اللدود.
فهل عاد العرب سيرتهم الأولى؟
التمذهب: دورالإعلام في الشحن الطائفي
لعبت بعض وسائل الإعلام دورا سلبيا في توجيه الحراك الشعبي والزخم الثوري عن مساره الذي كان يستهدف الأنظمة القائمة ومؤسساتها القمعية بالوسائل السلمية لتحقيق مطالب التغيير والتطوير وذلك بدسّ السم في الدسم، عبر سياسة ظاهرها محاولة مساعدة الثوار وإيصال صوتهم إلى العالم، أمّا الباطن فهو تحريك البرك الطائفية الراكدة لتتفشى روائح العصبية المذهبية الكريهة والعفنة في كل مكان وتُزكم الأنوف. ولنجاح خططهم إعتمدوا سياسة إعلامية غير بريئة تمثلت في تسليط مكثف ويومي للضوء على فسيفساء الطوائف المذهبية في بعض الدول والطعن في بعضها على لسان البعض الآخر بحجة قمع البعض للآخرين، وقد إستعملت كل الأسلحة الإعلامية من أجل بلوغ الهدف، وذلك بإغراق الشاشات بصور القتلى والدماء، والحوارات الموجّهة مذهبياً، والفتاوي “الشرعية”، مع تواصل الـ”زَنْ على الودان” واللعب على العواطف على مدار اليوم، ممّا ساهم في تكريس حالة من التمزّق والتشاحن بين أبناء البلد الواحد والمدينة الواحدة والقرية الواحدة، وعندما دخل عامل السلاح على الخط وسالت الدماء صَعُب خط الرجعة لنقطة التوافق وفتح الملعب لشيطان الثأر والثأر المضاد ليلعب بالعقول ويعمّق الجراح.
كان الهدف الأساسي لكل الحملات التحريضية هو الوصول بالشعوب إلى حالة الخوف والريبة من بعضها البعض. والخوف يُولّد الرغبة في إيجاد الحماية، إما بحمل بندقية وإمّا طلب عون “الأخوة في المذهب” في بلد آخر، أو “صديق” يبدي رغبته في توفير حمايته لـ”دواعي إنسانية”، إنه شريط متقن الإخراج، لكن بسيناريوهات شاهدناها من قبل، فهل تلدغ الشعوب من الجحر مرتين؟
النقمة: الحيف السياسي والاجتماعي والمناطقي
لقد بُنيت كثير من سياسات الدول العربية على:
1- الإستبداد السياسي، كأن يستفرد شخص أو مجموعة بالسلطة وإحتكارها دون غيرهم من بقية المكونات السياسية الممثلة للشعب فيولّد ذلك شعورا بالنقمة وتَشحذ المجموعة أو المجموعات المتضررة “سكاكينها” وتنتظر الفرصة للثأر من المستبدين وإستأصالهم، وقد شاهد العالم ذلك في حالة الثورة الليبية التي مُورس فيها الثأر بالتمثيل بالجثث والقتل الجماعي للخصوم، وبهذا الصدد قالت “هيومن رايتس ووتش” إن عمليات “ثأر” قامت بها مليشيات من مدينة مصراتة فأرهب السكان النازحين من مدينة تاورغاء المجاورة، بتهمة أنهم كانوا من قوات أو انصار القذافي، فقتلت العديد منهم ونهبت واحرقت ممتلكات وهجّرت سكان مدينة كاملة يسكنها حوالي 30 ألف نسمة.
2- التفاوت الإجتماعي وسيادة قانون الإستغلال، سواء مارسته السلطة الحاكمة بنفسها أو عن طريقة بطانة تابعة لها، فالمُحصّلة واحدة وهي زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ممّا يخلق حالة من الحقد الإجتماعي “الطبقي”، وما إن تقوم الثورات حتى ينقضُّ الثوار للإنتقام والثأر من مستغليهم و”إسترجاع” الثروات لصالحهم، وإن لم يستطيعوا ذلك ينتقمون بتدمير وحرق الممتلكات التي كانت بحوزة السلطة الحاكمة المخلوعة، كنوع من “الثار الطبقي”، وقد سادت هذه العقلية خلال الثورة التونسية لما حُرقت القصور والدور التي كانت لآل بن علي وأصهاره، وكذلك عرفت قصور القذافي وعائلته نفس المصير من الحرق والتدمير.
3- عدم التوازن المناطقي، وذلك بتكدّس المشاريع والإستثمارات الإقتصادية والبنى التحتية والمرافق الأساسية في منطقة أو جهة تكون غالبا مسقط رأس الرئيس أو المتنفّذين من الطبقة الحاكمة، مما يُخلّ بتوازن النمو بين مناطق البلاد، ممّا يجعل بعض المناطق تعيش بحبوحة من العيش في حين تعيش المناطق الأخرى الخصاصة والحرمان وتتضخّم فيها أعداد العاطلين، وكمثال على ذلك إحتكار مناطق الساحل التونسي لأغلب المشاريع الإقتصادية وتتطور بنيتها، ولذلك قامت الثورة في أكثر المناطق حرمانا وهو الجنوب التونسي والمدن الداخلية التي إنتفضت لتقول “لا” وتثأر من كل مظاهر الاختلال المناطقي، الذي خلّف جيوشا من العاطلين في جهات دون أخرى. وقد كانت عقلية “الثأر المناطقي” وراء تحرك مدينة بنغازي ضد النظام الليبي بسبب إحتكار الغرب الليبي وخاصة العاصمة طرابلس ومدينة سرت لكل المرافق العمومية والاقتصادية الهامة، ولم يبرد ثأر بنغازي إلاّ بعد إعلانها عاصمة ليبيا الاقتصادية.
وقد خلّفت “الثارات المناطقية” في ليبيا خسائر بمئات ملايين الدولارات وحوّلت مُدنا عامرة أثراً بعد عين كما حصل لمدينة سرت التي دمرت بحجة كونها كانت محظوظة لانها مسقط رأس القذافي. كما هاجمت مليشيات الثوار مناطق جنوب ليبيا بمنطقة بني الوليد وغيرها، وقتلوا سكانها من الأفارقة والطوارق بحجة ولاء هذه المناطق للنظام. كما أشارت “هيومن رايتس ووتش” الى قيام حراس المعتقلات التابعين للثوار بتعذيب المعتقلين الذين أُسروا بنفس حجة الولاء أو التبعية للقذافي.
وتتنوع نماذج الإختلال الجهوي أو المناطقي وتختلف من دولة عربية الى أخرى وتتفاوت في عمقها وقساوتها ففي بلدان تنام على بحيرات من النفط والخيرات يقف جزء من أهلها على التخوم بلا حقوق في المواطنة والجنسية إنّهم البدون المنتشرين بأغلب دول الخليج والامثلة كثيرة على مظاهر التمييز بين المناطق في كل البلدان العربية.
دول الربيع التي نريد
كان لا بد لكل ثورة حقيقية أن ترافقها منظومة أخلاقية وقيمية تؤسّس لنظام يقطع مع آلية الحكم الإستبدادية ويحفظها من السقوط في “ظاهرة الثأر” والإنتقام، حتى لا ينقلب التحوّل الذي من المفترض أن يقضي على قيّم الإقصاء والعنف التي كانت سائدة تحت شعار “أمن الدولة” إلى إنتاج نفس منظومة القيم، لكن بمسمى جديد هو “العنف الثوري” وكلّما تغلّب فريق نكّل بالآخر، وعُنف يولّد عنف وهكذا دواليك، حتى أصبحت القاعدة في نظم الحكم العربية، أو بالأصح نظم الحكم السلطانية، هي أن يكون جزء من الشعب قامع والجزء الآخر مقموع فلا توجد منزلة بين المنزلتين، تجهّزٌ دائم للقمع “من أجل السيادة” يوازيه تجهّزٌ آخر من المقموعين للثأر، في سمة “مايد إنْ أرابيا” والتي أصبحت “الماركة” الغالبة على نظم الحكم “العصرية” في بلاد العرب.
هل تنتفض من تحت ركام السّحق الذي مارسته الأنظمة العربية قيادات وشعوب تؤمن بأنّ دوام حال القمع والإستبداد من المحال، وتتمكن من تأسيس منطق جديد وفلسفة جديدة للحكم تقوم على إحترام الإنسان وحرية التعبير والتناوب والمشاركة دون إقصاء؟
وقد يتساءل البعض وماذا عن القتلة والقمعيين من طبقات الحكم البائد؟.. هل يذبحون بجرائمهم؟
إنّ الإلتزام بمبدأ العدالة الإنتقالية والإنصاف وسيادة القانون كفيل بحسم الأمر وذلك ضمن مؤسسات قضاء عادل يجنب العرب عقلية الثأر والإنتقام التي إن إلتزمنا بها فستعود بالجميع الى دوامة العنف الهدامة.
إن الإنتصار الحقيقي هو الإنتصار الذي يَقَرُّ في النفوس والقلوب ويكرس قيم التسامح، فإنّ غلبت قيم الإستبداد في ثقافتنا العربية ووسمت جزءا من تاريخنا السياسي بالقهر والغلبة، فلأننا أدرنا ظهرنا لقيم أخرى سمحاء وضاربة في جذور ثقافتنا لم نولها ما تستحق. انها القيم التي أراد الرسول محمد (ص) أن يركزها في حياة الناس وفي أول بداية سياسته وقيادته للمسلمين، فلما انتصر ودخل في عام الفتح مدينة مكة، التي حاربه سادتها وطردوه مع أهله وعشيرته الى شعاب الجبال ليموت سَنَدَاهُ السيدة خديجة وعمه ابو طالب في ذلك الحصار، وبعد ان فقد كذلك عمّه حمزة وعديد صحابته في حروب قريش لكنه لمّا دخلها منتصرا في عساكر مدججة بالسلاح، كان كثير من جبابرة مكة وأهلها ينتظرون أن يثأر منهم غير أنه تسامى عن الثأر والتشفي والانتقام واضعاً أسس لثقافة قيمية جديدة تنبني على العفو عند المقدرة والتسامح، فقال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
إنها رسالة لطبيعة العقلية والسياسة التي أراد لها الرسول محمد (ص) أن تسود حياة الشعوب، أرسلها منذ فجر دولته، لكن أكثر ساسة العرب لا يفقهون.
Leave a Reply