أصدر الشاعر عبد النبي بزي مجموعتين شعريتين هما: “فيض الولاء”، و”أم القرى”. وهذه الأبيات التي سنقف عندها هي من مجموعته الثانية (أم القرى.. بنت جبيل). وإذا كان الدكتور يحيى شامي قد أفاض القول في أسلوب الشاعر في اختيار بحوره وقوافيه وفيما يدخل في إطار الإيقاع، كما فصّل القول بشأن مضامينه فإن تقنيات الصورة الشعرية لديه مما يحتاج إلى وقفة، وهذا ما ستقف عنده السطور التالية.
تأمل قصيدته التي يخاطب فيها وطنه لبنان:
لبنان مجدك زاهر.. ريّان
تجري وتخشع دونه الأزمان
آيات مجدك كالتليد طريفها
بدم الشهادة.. والإبا.. تزدان
يا شمس إيمان يشع بهاؤها
تهفو وتقبس نورها الأكوان
لبنان يا وطنا زها بشموخه
هرم الزمان وأرزه ريعان
حين خاطب الشاعر عبد النبي بزي وطنه لبنان فإنه شخّصه ضمنا، أو أنسنه إذ ناداه، لأن الشاعر لا يتخيل لبنان مجرد ربوع خضراء وجبال وهضاب، بل إن الوطن كائن حي حميم ولصيق بالشاعر. وهذه هي آلية الاستعارة، أو الصورة الاستعارية، التي احتضنت القصيدة كلها. وتجد داخل هذه الصورة الاستعارية عشرات الصور الشعرية، ففي قوله مخاطبا الوطن: مجدك زاهر ريان، تكمن استعارة مستقاة من عالم الزهور والرياحين والأغصان. وهنا يتألق مجد لبنان بحيث يرى ويشم ويلمس كما الروض، وهو ماء يجري، ولا يخفى رمز الماء فهو سر هذه الحياة. ويمضي الشاعر في تكريس قداسة لبنان وعبر آيات مجده. وحين أفاد الشاعر من كاف التشبيه في قوله: (كالتليد طريفها)، فإنه جسّر بين صورتين شعريتين، ووجه الشبه بين التليد القديم والطريف الجديد هو أنهما متسقان في إطار صورة الوطن الحبيب لبنان، فهو تاريخ وحضارة، وهو في الوقت ذاته حاضر ناصع صنعه أبناء هذا الجيل في لبنان ومن خلال تضحياتهم ومقاومتهم الباسلة.
وكم أعجبني بيت الشاعر عبد النبي الذي يقول فيه:
لبنان رمز للأخوة مشرق
بربوعه… تتألق الأديان
والتألق هنا قرينة استعارية تحيل إلى الشموس والنجوم والأقمار، وتتشكل من هذا التألق صورة بصرية ساطعة أراد بها الشاعر تآلف الأديان في ربوع لبنان. فإذا تآلفت فإنها تقوم بدورها في إنارة الدرب للسائرين وهدايتهم وكما ينبغي للأديان أن تكون. وخلاف ذلك ليس من سجيتها، بمعنى أن تكون مصدر موت وتضاد حاد بين أبناء الوطن الواحد. وهذا مما ينطبق على كل زمان ومكان.
ويتساءل الشاعر:
لبنان هل يصفو زمان أربد
وتعود من بعد العجاف سمان؟
حيث يفيد الشاعر عبد النبي من بعض الألفاظ القرآنية ومن إيحاءاتها ومن سورة يوسف تحديدا. وهو شأن ينطبق على كثير من مفردات الشاعر عبد النبي وتراكيبه اللغوية التي وردت في مجموعتيه كلتيهما. ونحس بأن الشاعر متفائل حين يقرن السنين العجاف بالسمان، لأن من طبيعة الحياة وسجيتها هذه الثنائيات: ليل/ نهار. وخصب/ جدب. وشتاء/ صيف، إذن لابد من أن تهل أعوام الخصب والنماء.
وللشاعر أسلوبه في مواجهة هموم الحياة، تأمل قوله:
إذا ما الليل أضناني
وجيش همومه حشدا
ألاقيه.. بقافية
ترد جنوده.. ردّا
إذن فالشاعر في صراع طويل مع الليل الثقيل، مما يحيلنا إلى أجواء معلقة امرىء القيس إذ يقول:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ.. بأنواع الهموم…. ليبتلي
وحين يضيق امرؤ القيس بالليل ذرعا يخاطبه قائلا:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وإذا كان امرؤ القيس قد استسلم لهموم ليله فإن شاعرنا عبد النبي له سلاحه الذي يهزم فيه الليل وهو قافيته، بمعنى أن شعره هو ملاذه وأنيسه في لياليه.
وفي موضع آخر من هذه القصيدة ذاتها، يكرر الشاعر هذا المضمون:
وإن سنحت عروس الشعر يوما
وأنت بقاصرات الطرف أدرى
تساقيني الهوى… ميلا… وصدا
وأشرب كأسها… حلوا.. ومرا
أدللها…. ولا.. تدري….. بأني
على وضم الأسى كبدي تفرى
ألاطفها…. فإن لانت… ورقت
بذلت لها دمي والقلب.. مهرا
فيغمرها الرضى وتطيب نفسا
وتكشف عن رياض الشعر سترا
فأرشف… من مقبلها.. المعاني
وأرسم حسنها عجزا وصدرا
وأستجلي الرؤى من.. مقلتيها
فتشرق من سنى الألحاظ زهرا
وبذلك تفضح القصيدة أسرار الشاعر، وتكشف أن الشعر ليس مجرد هواية يتسلى بها بل إن الشعر عالمه كله وجوهر حياته. وهو يعبر هنا عن مكابداته ومعاناته مع القصيدة مكنيا إياها بعروس الشعر.
وكم أعجبتني صوره الشعرية وهو يصف أبطال هذا الزمان الغث الذي يذكرنا ببطل الروائي الروسي ليرمانتوف في روايته الشهيرة: بطل من هذا الزمان، حيث صب فيه كل مساوىء عصره. يقول الشاعر:
أعيذك من زمان صار فيه
يطاول ضفدع الأوحال نسرا
وخفاش الظلام يصيد بازا
ويقنص أرنب…. ليثا هزبرا
وهذه صور شعرية تحفر لها مكانا في ذاكرة المتلقي، وهي من نمط السخرية المرة أو الكوميديا السوداء، وقديما قيل: شر البلية ما يضحك.
وخلاصة ما ذكر أن نسيج قصيدة عبد النبي بزي تزخر بالصور الحية التي تنبض فيها الأشياء والموجودات فإذا بها تحس وتعي وتعبر. وهذا هو عالم الشاعر الزاخر بالحياة والحركة والحيوية.
Leave a Reply