نظرات مشفقة.. عزلة اجتماعية واستهزاء سافر
ربما كان ذنب علا الغصين، ابنة السابعة والعشرين عاما، أنها مصابة بمرض متلازمة داون، الذي يؤدي إلى نمو الأجسام بشكل غير طبيعي مترافقا مع حالات قصور عقلي. وللتوضيح، تظهر على علا علامات الاحتياجات الخاصة بشكل واضح، على عكسنا، نحن البشر الأصحاء، أو الطبيعيين حسبما يحلو لنا ان نسمي أنفسنا، الذين نتستر عن “حاجاتنا الخاصة” و”عاهاتنا النفسية” بمظاهرنا الخارجية. ما يدفعنا، نحن “الطبيعيين”، في كثير من الأحيان الى معاملة هؤلاء “المرضى” بكثير من الشفقة والتعاطف، لكن يبقى هناك بعض الاستعلائيين الذين يعاملون علا وأمثالها بتمييز ودونية.
“هيك أشكال..”
تشعر بالغصة في كلمات فاتن ،أم علا التي تعيش في ديربورن، وهي تروي الحادثة التي صادفتها مع ابنتها. فوقع كلمات التمييز القاسية لا تزال ترن في أذني الأم وتشعرها بالغضب. فمنذ أسابيع قليلة، اصطحبت فاتن ابنتها الى عيادة طبيبها الخاص الدكتور بسام أبو فرحة، الذي من ناحيته أحالها الى عيادة طبيبة الأسنان عليا مروة لفحص أسنان علا. ذهبت فاتن بدون موعد مسبق، ووطلبت من قسم الاستعلامات رؤية الدكتور، لكن المرأة العاملة في ذلك القسم، وهي امرأة محجبة وتناهز الأربعين من العمر، قابلتها بفظاظة وعدائية وقالت لها: “هلق الدكتور سامي أبو فرحة صار عم يبعتلنا هيك أشكال”، وهي تشير هازئة باصبعها نحو الصبية المريضة، علا. الأمر الذي أشعر الأم بالصدمة والإهانة مما دفعها إلى سحب بطاقة ضمان ابنتها الصحية من يد الموظفة الأربعينية ومغادرة العيادة.
تستغرب فاتن من نفسها كيف تصرفت على ذلك النحو المسالم، وتلوم نفسها كثيرا على تجاوز تلك الحادثة، ولكنها لاحقا اتصلت بالعيادة وتحدثت مع المسؤول لتعرف لماذا تمت معاملتها بهذا الشكل غير اللائق وغير المهني، ولكن مدير العيادة نفى وقوع تلك الحادثة، دون أن يبدي أي تعاطف أو تفهم لخاطر الأم المكسور.
ومرة ثانية، ولدى توجه “صدى الوطن” إلى عيادة الدكتورة مروة ومحاولتنا مقابلة المدير المسؤول، الذي رفض التعريف عن نفسه، قال: “الحادثة لا أساس لها من الصحة ومن الواضح ان فاتن قد اختلقت الرواية”. واعتبر ان الاعتماد على شكوى واحدة من المواطنين لمقاربة هكذا موضوع أمر غير مناسب، وغير عادل، وقال مستنكرا: “هل يمكن لأحد ان يتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بهذه الطريقة؟”.
ومن ناحيتها ماتزال فاتن تتألم مما حدث وتتمنى على تلك الموظفة المحجبة أن تتقي الله وتحترم مشاعر الناس، أو على الأقل تلتزم بالأصول المهنية، وتقول “إذا كانت رؤيتها (تقصد الموظفة) لذوي الحاجات الخاصة يزعجها فلتلزم بيتها”.
تعتبر فاتن أن هنالك نقصا في العناية بذوي الحاجات الخاصة في الدول العربية، الا أن وجودها في أميركا أمن سبل حياة أفضل لابنتها التي يتعامل الناس معها بصورة طبيعية وبكل احترام، في أغلب الأحيان. وتجد فاتن اهمالاً من قبل الجالية العربية في تأمين حياة اجتماعية لذوي الحاجات الخاصة، وتقول: “الاندماج الاجتماعي يساعد كثيراً على فهم كيفية التعامل مع الأبناء من ذوي الحاجات الخاصة والاستفادة من تجارب الآخرين، وهذه مبادرة يجب أن تأخذ في الحسبان من قبل المؤسسات العربية الاجتماعية”.
كلنا.. من ذوي الاحتياجات الخاصة
بدورها، تحلم “أم علي” التي تعيش في ديربورن هايتس، برؤية ابنتها نور، التي تعاني من من تأخر في النمو العقلي، مستقلة في الحياة وتحظى باحترام الجميع بدلا عن تلك النظرات المشفقة التي ترمي بسهام الأذى على نور وأهلها. وتقول “أم علي”: “للأسف ينقصنا الوعي، ولكننا نتسلح بحتمية مواجهة القدر الذي لا مفر منه، ونرفض في الوقت ذاته أية نوع من الإضغاف يمكن أن يسببه الآخرون لنا”. وتضيف “نحن هنا في ديربورن نعيش ضمن مجتمع متعدد الأديان ولكن تنقصنا الطهر الحقيقي والتعاطف النبيل.. فكل واحد منا بحاجة الى مساعدة من نوع ما”.
كانت “أم علي” تظن ان معاناتها ستنتهي مع مرور الوقت الا أن الواقع يزيد الأمور تعقيداً، فنور، ابنة السادسة عشرة من العمر، تتقدم في السن وتواجه صعوبة التأقلم في مجتمع لا يعير اهتماماً الى ذوي الحاجات الخاصة. وينظر إلى هؤلاء “المرضى” بنظرات الاستهجان والتمييز التي تسبب الإحراج والإرباك. وتشعر نور بقساوة تلك النظرات وتعرف من يعاملها بشفقة ومن يحبها لشخصها، وتشكو الى أمها من بعض الناس الذين يعاملونها بتمييز ودونية.
تقول “أم علي”: “حتى في الموت يجتمع الناس على العزاء لتخفيف من مصاب المفجوع الا أن ذوي الحاجات الخاصة يعيشون في شبه عزلة قسرية تفرض عليهم من مجتمع لا يتعامل معهم بصورة طبيعية”. وتضيف “بالطبع هنالك بعض الاستثناءات حيث القلائل الطيبون الذين لا يحملون في قلوبهم سوى المشاعر المتفهمة والطيبة”.
كل همهم دعوات العشاء وجمع التبرعات
تجد أم علي في المجتمع الأميركي رحمة لابنتها، فيؤمن لنور المتابعة الطبية وتلبى كل الحاجات ولكن في مجتمعاتنا العربية الأمر مختلف تماماً. وتسأل: “هل هنالك دور إسلامية أو عربية لذوي الحاجات الخاصة؟ نسمع كل يوم عن مناسبات واحتفالات دينية واجتماعية تقوم بها الجالية العربية في ميشيغن، ولكن لا نسمع عن أي مبادرة تتعلق بذوي الحاجات الخاصة”! وتضيف: “الهم الأساسي عند أصحاب المراكز والقرار في الجالية تلبية دعوات العشاء وجمع التبرعات”.
وتعتبر أم علي أن المجتمع لا يرحم، فقيام الانسان “الطبيعي” باقتراف الشذوذ والعصيان الاجتماعي والخروج عن القيم أمرٌ عادي، الا ان ما يوجده الله بحكمته في بعض البيوت من حاجات خاصة يتعامل معها المجتمع بدونية وتمييز فيكون قولهم دائماً “يا حرام شو بها هالبنت أو هالصبي”. وهنا يعود اشتعال عذاب أم علي وتعود لتشعر بوحدتها في مجتمع قاس “فبالنسبة للناس العاديين الوقوع في الخطأ مغفور بينما الوقوع في حكمة ربانية يواجه بالنبذ والاهمال”. وتعتبر “أم علي” أن “جميعنا بحاجة الى مساعدة وكلنا من ذوي الحاجات الخاصة”.
تقول أم علي بحسرة موجوعة: “نعيش غربة مضاعفة، غربتنا عن وطننا وغربتنا بين أهلنا وأبناء مجتمعنا الذي يتعامل مع ذوي الحاجات الخاصة باهمال وتمييز ولا يعير هذه الفئة من الناس أي اهتمام وكأنه محكوم علينا العزلة بتهمة الاعاقة الجسدية الربانية”.
فاطمة: انا أميركية أولاً
في احدى بيوت ديربورن، تعيش ليلى وهي أم لابنتين، احداهما مقعدة، لا تستطيع المشي أو التنقل دون استخدام الكرسي المدولب. اسمها فاطمة وعمرها عشرون عاما. وهي صاحبة وجه رائع الجمال، الا أن جسدها مقعد. تقول فاطمة: “أنا أميركية أولاً ولا أعتبر نفسي عربية، وافتخر باسلامي ولكنني أعتبر المسلمين الذين حولي بعيدين عن روح الإسلام الحقيقية فهم لا يعيرون ذوي الحاجات الخاصة في المجتمع أي اهتمام بل على العكس يواجهني أبناء بيئتي بالنظرات السلبية والكلام الجارح”.
وتضيف: “ان عقلي سليم 100% ولكنني أعيش أسيرة جسدي المصاب بعاهة ستلازمني مدى الحياة”. ولا تشعر فاطمة بالحرج من كونها مقعدة وتقول: “ان لله حكمة في خلقه وقد حرمني من نعمة أن أكون طبيعية ولكنه منحني عقلا سليما وقلبا محبا وعائلة حاضنة”. وتضيف: “لكنني أشعر بالأسف على شيء واحد، وهو أن مجتمع الجالية العربية ظالم وينقصه الوعي والايمان الحقيقي، إننا نحمل الجهل معنا من بلادنا ونتمسك به بدل أن نتعلم من الدول الغربية أن الانسان ذو قيمة وله حقوق وعليه تقع الواجبات وليس مجرد جسد يتنفس وقلب يخلو من الرحمة”.
فكر مرتين.. قبل أن تتصرف
اذا فكرنا ملياً بحكمة أن يصاب المرء باعاقة خلقية، نعرف جيداً أنه ليس فينا نحن البشر أحدٌ معافى، الفرق أن ذوي الحاجات الخاصة يظهر اختلافهم الى العلن بينما نستطيع نحن “الطبيعيين” ان نرتدي أقنعة خاصة تخفي العلل وتغير ألوان الحقائق.
ليس المطلوب من الناس أن تحاول التعامل مع ذوي الحاجات الخاصة بطريقة انسانية، لأن المسألة مجرد شعور ينتاب الأسوياء، فاذا كنت من الناس الذين تحركهم مشاعر التمييز والاستعلاء والاشمئزاز والشفقة عندما يصادفون من هم من ذوي الحاجات الخاصة، فاعلم انك تقرب من كل شيء في التسمية الا أن تكون انساناً.
Leave a Reply