زمن الإستعمار: “بقـرة حاحا”
بلاد العرب أو العالم العربي أو البلاد العربية إنّها تسميات مختلفة لأرض تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، أرض جذور تاريخها ضاربة في القدم، فمنذ أكثر من تسعة آلاف سنة إمتزجت فوق أرض العرب شعوبا وقبائل لتبني وتُشيّد بسواعد وفكر أهلها حضارات شتى كالأرامية والعمورية والأشورية والبابلية والحميرية والفينيقية والكنعانية والأكدية والسومرية.. وغيرها الكثير. حضارات نشأت وإمتدت في السهول والجبال وعلى ضفاف الأنهار والوديان والبحار لتُغني التراث الإنساني وتهيئ لنُقلات نوعية في حياة البشرية.
لم تكن بلاد العرب منشأ أهمّ الحضارات الإنسانية فقط، بل كانت كذلك أرض الأديان التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام ومصدرا لأهمّ الثروات المائية والمعدنية ومدخرا لربع نفط العالم، كل هذه العوامل جعلت من المنطقة ذات أهمية إستراتيجية وأهم المناطق الحيوية في العالم، كما كانت سببا في تكالب الأمم على غزوها ونهب ثرواتها.
لم تهتدأ الحملات العسكرية الغربية القادمة من وراء البحار لغزو المنطقة العربية منذ العصور الوسطى فيما عرف بالحروب الصليبية، بل تتالت الحملات مدّا وجزرا إلى العصر الحديث، حيث إزدادت حاجة المصانع الأوروبية لنفط المنطقة ولثرواتها الباطنية والأولية، وبعد سقوط الحكم العثماني في البلاد العربية، والذي كان هو الآخر حكما فاسدا، رغم تلحّفه بعباءة الدّين، أصبح الطريق مفتوحا لقوى الإستعمار الجديد، فتدفقت الحملات العسكرية الأوروبية الغربية لتتقاسم المنطقة العربية بعد إتفاقية “سايكس بيكو” سيئة الذكر في العام 1916، والتي كانت إتفاقاً سرياً قُسّمت بموجبه البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا بمباركة إمبراطورية روسيا القيصرية.
لقد مارس الإستعمار الغربي للبلاد العربية إستبدادا سياسيا ونهبا وإستنزافا إقتصاديا لخيرات البلاد حيث أصبحت المنطقة مصدرا لتغذية المصانع الأوروبية بالمواد الأولية وباليد العاملة البخسة الأجر، كما حوّل المستعمرون جزءا هاما من أبناء البلاد للسُخرة بالمصانع والعمل بالجندية ووضعوهم في الصفوف الأولى في كل معاركهم وحروبهم.
ورغم الفقر والتعتير والتقتيل والقهر حاولت البلاد العربية التي أصبح دورها دور البقرة الحلوب، لكن للاسف كان حليبها دائما مسلوبا، من أهلها شأنها شأن “بقرة حاحا” المغلوبة على أمرها في قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم، حاولت بقرة حاحا أن ترفض السُخْرة وتجرب أن تكون نطاحة أحيانا وإستغاثت بأولادها إلاّ أنّ أولادها، “أولاد الشُوم” على عادتهم رايحين في النوم، ولمّا طال نومهم كأهل الكهف سقطت بقرة حاحا لتقطّعها السكاكين، عندها بكى أولاد حاحا وطنا بنته سواعد الرجال لكنهم لم يحافظوا عليه كالرجال.
دول “الإستقلال”: حكم قراقوش أو الحاكم بأمره
خرج أغلب الإستعمار الغربي من بلاد العرب من الباب في مرحلة ما عرف بقيام الدول العربية “المستقلة” بعد أن إستنزف خيراتها ودمّر بناها الإقتصادية والإجتماعية، ليعود إلى المنطقة من الشباك ليحكم عبر ساسة عرب أغلبهم ألعوبة في يد غيرهم. لم تعرف المنطقة حينها أيّ تغيير في أساليب الحكم، فالإستبداد والقهر، وإن تغيّر المستبدون، ظلت أساليبه وبقي هو السمة الغالبة على كل الأنظمة العربية الحاكمة، وبذلك تحولت شعوب المنطقة من رعايا ومسخّرين لخدمة الإستعمار إلى رعيّة في خدمة الحاكم أو الأمير أو السلطان الذي لم يكن راعيا حقيقيا لشعبه بل إنّه لم يرَ فيه إلاّ قطيعا يجب عليه الطاعة وإن إحتجّ أو أبدى رأيا أُتّهم بالخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة.
لقد فشلت أغلب مشاريع الدول التي قامت في البلاد العربية في تركيز مشاريع تنموية. وأصبحت البلاد العربية تصنف ضمن الدول النامية، وهي صفة أطلقت على ما سمّي بالعالم الثالث وهي بلدان نائمة فعلا ونامية مجازا، فلا صناعة وطنية ولا تنمية بشرية عبر نشر التعليم والصحة وتشجيع القطاعات الزراعية من أجل تحقيق الإكتفاء الغذائي، بل على العكس تحوّلت المنطقة سوقا لكل المواد المستوردة ومصدرا للمواد الخام التي تُصدّر عبر شركات محلية وأجنبية، لكن ليذهب ريعها إلى أرصدة الحكام، مليارات ومليارات عوض أن تعود لتدير عجلة الإقتصاد كانت تُحول وجهتها لتتكدّس في المصارف الخارجية بأسماء حكّامنا ومن سعد بجوارهم من البطانة والعائلة وكل النهّابة الجدد. لقد أصبح فعلا حاميها حراميها، ويا ويل وسواد ليل من إحتج أو حتى تململ، فدول العرب الأمنية أبدعت في إستنباط وسائل القمع وتكميم الأفواه، وسجونها ومعتقلاتها منتشرة على طول الوطن وعرضه ولـ”كوادرها” البوليسية خبرة عالية في هذا المجال، والمحظوظ من لم يُزج به في تلك السجون وتمّ تشريده في المنافي.
لقد إختزل زعماء العرب الدول والأوطان في شخوصهم، فالأوطان هي هم، وهم الأوطان. فالمواطنة وحقوق الإنسان والحياة الكريمة مطالب تعد في قاموسهم من الكماليات، ولابدّ للعربي أن يحمد مولاه حتى وإن إفترش الأرض وتلحّف السماء.
عصر الثورات: سرقة الأوطان والأحلام
في غفلة من كل نواميس وقوانين علم الاجتماع والسياسة وكل نظريات الإيديولوجيا والثورة، إنتفض شعب تونس في بلاد كان حاكمها يظن أنه أحكم زمام أمور دولته وأن شعبه قنع بحظه من الحياة وخنع وأنّه يواصل نومه في سبات عميق، لكن ما لم ينتظره الدكتاتور حصل وانتفض شعب تونس ليتحول هديره إلى ثورة هزت القناعات الكاذبة وأطاحت بالحاكم بأمره وتتداعى حكم قراقوش بأسرع ممّا كان منتظرا.
إمتد “الحريق الثوري” إلى بقية الدول العربية، وفي حين كانت الشعوب تحتفل بثوراتها كانت عيون أخرى في الداخل والخارج ترقبهم، عيون فاجئها التغيير فراحت تبحث عن وسائل لتركب الثورات أو تلتف عليها، المهم أن تسرق الحلم وترتد بالوطن الى حيث كان دوره السابق وتحويل وجهة الثورة قبل أن تتحوّل إلى حقيقة يصعب التحكم فيها.
تحركت وإشتغلت لوبيات الردّة وتكونت المحاور والأحلاف “المتضررة” من الثورات الشعبية، ووضعت الخطط للعْب على كل ما يمكن اللعب عليه وقد ركّزت تحركات غرف عملياتهم على:
1- بذل المال السياسي: وذلك إمّا للدفع بقوى مضادة للثورة لتتبوّأ مكانة الصدارة خاصة في البلدان التي إستطاعت أن تصل بثورتها إلى الإستحقاقات الإنتخابية وإمّا بمحاولة كسب تيارات شعبية عبر تمويل حملاتها الإنتخابية وبذلك تُلوّث المشهد السياسي الجديد وتُشوّهه خاصة في ذهن أغلب الفئات الشعبية التي كانت متضررة من الأنظمة السابقة والتي ساندت قوى التغيير ليبدو ما يحصل وكأنّه إنتقال للسلطة إلى نموذج آخر من الساسة الفاسدين لبثّ اليأس في النفوس.. وليستمر الصراع مستنزفاً الجميع.
2- تعميق الفتن، بالتركيز على عناصر الإختلاف لتحولها إلى عناصر للخلاف، ففي البلدان التي تتكون من طوائف مذهبية ودينية تعمل تلك اللوبيات على مزيد من التركيز على التنوع وإبراز أنّ المختلف عليه قد يكون مصدر للخطر ويمكن ملاحظة ذلك مثلا في حالة “اللا ثقة” التي شهدها الشارع المصري بين الإسلاميين والأقباط. أمّا في البلدان التي تنتفي فيها الطوائف كتونس ركّزت قوى الردّة على الإختلاف الاديولوجي خاصة بين التيارات الإسلامية والدينية وبين أحزاب اليسار لتوسيع الشرخ وإذكاء العداوات.
لم تستثن خفافيش الظلام أيّ شيء ممكن أن تستفيد منه لتخريب العلاقة بين أفراد الشعب الواحد، فحرّكت الصراع بين الاثنيات العرقية، كما حصل في ليبيا حيث أذكوا الخلافات والتقاتل بين العرب والأمازيغ، وبينهم وبين الأفارقة والطوارق، سكان جنوب ليبيا.
3- جر التحركات السلمية إلى مستنقع العنف: وضرب مكونات الشعب بعضها ببعض، فإن إنتصرت تلك التحركات فقد سالت فيها الدماء مما سيعمق التمزق الاجتماعي، وإن فشلت تحول قتلاها الى قميص عثمان، وشعارا لتحركات لاحقة أعنف وإن خلفت دمارا للبنى التحتية وغيرها فقد جعلت البلد هشا وقابلا للسيطرة عليه إقتصاديا بإسم “إعادة الإعمار”. لم يعد هناك حدودا للخيانة، جماعة تتآمر ضد آخرى لتنتقل في أماكن أخرى وتتآمر على نفس حلفائها، خيانة تجر أخرى والحبل على الجرّار وروائح العفن تنتشر في كل مكان، “ويَامَا في الجراب يا حاوي”.
إنّ ماسبق ذكره من وقائع حدثت أو هي سناريوهات يعمل على تطبيقها سيخلّف بلدانا عربية هشة اقتصاديا، ليس أمامها إلاّ الإرتهان لمن يدفع الأموال، كما سيخلف تمزقا سياسيا واجتماعيا يضرب الاستقرار ووحدة البلدان.
إنّه زمن عربي انهارت فيه القيم وصار فيه العرب أضحوكة بين الامم. زمن يوصف فيه المرء المتملق والمتسلق والماكر والانتهازي بالعقلانية والواقعية وفهم الواقع. زمن العرب “الشخشيخة” تسلّط فيه من العرب على العرب أرذلهم، وإمتدّ فيه سلطان أجهلهم.
زمن صار فيه العرب ألعُوبة في السياسة وأصبح أغلب ساستهم رموزا للخساسة.
إنه ببساطة زمن عربي أشعث أغبر.
Leave a Reply