لكأنك أحلى بالأسود، حتى كأنك واقف على شرفة تطل على البحر أو على العبارة المؤثرة. وكأنك أكثر إيلاما من ابتسامة الميت في صورة ناجحة يشع على خلفيتها ضوء متكاسل. كان للأسود أن يكون أكثر جمالا في عباءات الأمهات، وفي أثوابهن المعلقات على حبال الغسيل، لولا هذا النزوح إلى الذكريات القديمة.
لأخذتك إذن من يدك وأقنعتك أن ترى البحر، أو أن ترى دمشق من على قاسيون، لتشعر مثلي بالغصة، وبالصوت المكتوم. لأطلنا النظر حتى تغرورق قلوبنا بالدموع والأشجار القليلة على أرصفة الشوارع، أو أن تجهش قلوبنا بالأسئلة الأليمة: لماذا كل هذا؟
لماذا كل هذا، وقد مر الغرباء من هنا وتمتعوا بحكاياتنا وبطعم تفاحنا ومشمشنا ونقلوا عنا الأخبار إلى أهاليهم. لو لم أكن شاميا لمت من الحسرة والندم. لم لو تلسعني شمس دمشق ورياحها وأمطارها لسرت إليها مشيا على الأقدام، لنذرت نذرا لو لم أكن شاميا: إذا متّ على غفلة من نفسي ومن قدري ادفنوني في دمشق!
وادفنوني في الشام، وازرعو شجرة سرو على قبري، تحط عليّ الطيور الغريبة، وتخمش جلدي وأحلامي حين تفر، وحين تمر القبائل سأسفك دموعي كلها، وسوف أبكي وأنا أسمع أطفالا صغارا يتساءلون: لمن تسجد هذي الكواكب الصغيرة..
وثمة في الشام موتى لا يموتون، وثمة في الشام قتلى لا ينقتلون. يدفنون على عجلة ولا تنطفئ عيونهم، ولا ينقطع الضحك في قلوبهم، ولكنه يتقطع.. كالقهقهات. يا للضحكات العميقة ويا للفرح الجارف اللامع في العيون.. السوداء. وأنت أحلى بالأسود، كأنك واقف على شرفة على البحر أو على العبارة المؤثرة.
ولابد للحرب أن تنتهي وأن تضع أوزارها لنزور المقابر في أيام الخميس مع أعواد الآس والريحان. وسوف يحدث بالتأكيد أننا سنذرف الكثير من الدموع وسوف نعض قلوبنا من شدة الندم على ما حدث. يشبه الأمر.. ورطة تراجيدية لا يستطيع أبطالها أن يتفادوا مصائرهم ولا أن يشذوبوها أو يغيروا من صفاتها قيد بوصة واحدة. يشبه الأمر ورطة تراجيدية حيث يواصل الجميع طريقهم إلى مصائرهم ليقتلوا مبتسمين وراضين عن أنفسهم وأصدقائهم وبطش الرصاصات الغبية والذكية على السواء..
لأمد آهاً إلى أقصى ما تستطيع اللقالق الطيران، وآها أخرى أطول من عواء الذئب، لأن الحسرة تملأ قلبي، ولأن الحزن يتمدد على سريري فأنام كئيبا لا حول لي ولا رغبة إلا في تأمل هذا الأسود الغامق كعباءات الأمهات والكتيم مثل ليل لا يطل على نوافذ المرأة المشتهاة. وما أحلاك بالأسود.. كأنك تطل على شرفة على البحر.. أو على شعر المرأة النائمة!
قد يكون لدينا متسع من الوقت كي نتمشى في السهوب المترامية الخضرة وأن نعود لمرة واحدة وأخيرة لكي نصطاد الأسماك والبط فوق البحيرات والأنهار، ولكن شيئا قاتلا سينقصنا إلى الأبد وسوف يؤذينا بلا رأفة ولا توقف. لا اختلاف الأيام ولا التقدم في الأعمار.. بل العجز عن تذوق الأشياء والعناصر. أجل.. أنا أيضا أشعر ما تشعر به.. كأن كل هذه الأشياء بلا طعم. لقد خسرنا المعركة يا صاحبي، خسرناها حتى آخرها وها نحن نتربع على عرش الانتصارات الهزيلة. خسرناها لأننا ها هنا نقوم بما نقوم به كالسائحين والعابرين لا كأصحاب البيوت والمزارع..
لأبسط الأشياء ينهمر الدمع، لأنني حزين للغاية، وهذا يحدث على غير العادة. من ذكرى خاطفة أجهش بالبكاء. من صوت على الهاتف في آخر العالم يتحرك قلبي وينتفض. من صورة لا أعرف أصحابها. بأبسط الأشياء أشرد وأغيب كمن يغوص في القاع ليجرب برودة أخرى للماء في الأعماق أو طعما آخر للغرق. في الأعماق حيث الأسود الغامق إلى آخره، ولكأنك أحلى بالأسود.. كمن يطل على شرفة على البحر أو على العبارة الأخيرة..
Leave a Reply