محطات من تاريخ الفتوى الدينية
وعلاقتها بالسياسة
عرفت العلاقة بين الدين والسياسة حالات شدّ وجذب على مدى مسيرة البشرية، ومنذ تحرر الانسان من عبادة الطبيعة والأوثان وتحوله الى الإيمان بالأديان المنتشرة حاليا إزدادت العلاقة أهمية وتعقيدا، فمرة يسيطر رجال السلطان فيقصوا الدين أو يُطوّعوه لخدمة سياساتهم ومآربهم عبر إستصدار الفتاوى من الفقهاء وعلماء الدين ومرة تشتد قبضة القائمين على الدين فيُسيّروا أهل السياسة وفق نواميسهم.
وعلى مرّ العصور إختلفت العلاقة بين الدين والسياسة وبين دين و آخر ومن عصر الى آخر.
الكنيسة والفتوى الدينية:
سيطرة اللاهوت على الناسوت
أفرزت الكنيسة المسيحية نظام “الإكليروس” أو رجال الدين، الذين سيطروا في العصور الوسطى على الحياة السياسية والعامة لشعوبهم فكان الملوك والأمراء يسعون الى إرضاء الكنيسة لمباركة مُلكهم وأحيانا كانت الكنيسة تَفصلُ وتُرجّح في صراعات القصور. وقد بلغت سيطرة الكنيسة ذروتها في القرن السادس عشر ميلادي حيث أُصدرت الفتاوى الكنسية ببيع “البركات” إلى العامة في ما عرف بـ”صكوك الغفران” التي أصدرها البابا “لاون العاشر” ليبيعها ويحصل على الأموال اللازمة لبناء كنيسة القديس بطرس في روما، حسبما أشيع، كما كثفت الكنائس الأوروبية، خاصة في فترة الحروب الصليبية، من إصدار الفتاوى التي تحُضّ أتباعها على السير الى الشرق العربي بحجة “تحرير” مهد المسيح من أيدي المسلمين. وقد استمر نفوذ الكنيسة البابوية حوالي ألف وخمسمائة سنة إلى أن ثارت الشعوب الأوروبية عليها خاصة في العام 1789 في ما عرف بـ”الثورة الفرنسية”، فتقلّص دور رجال الدين بعد إعتماد مبدأ فصل الدين عن الدولة وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
إختلف تاريخ اليهودية منذ ظهور المسيحية ثم الإسلام وسرعة إنتشارهما، لكنّ ذلك لم يمنع اليهود من لعب أدوار تفاوتت في الأهمية ولكن كان ذلك دوما ضمن الهامش الذي تمنحه الدول المسيحية أو الإسلامية.
الفتوى بين الإسلام والسياسة:
تبادل الأدوار
نشأت الدولة في البلاد العربية والإسلامية بعد ظهور الإسلام كتعبيرة عن الحالة الدينية الجديدة التي عرفتها المنطقة العربية فكان ذلك أحد السّمات التي طبعت علاقة الدين والدولة على مرّ العصور. فالدولة، حسب ابن خلدون في مقدمته، “خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدنيا به”، والهدف من إقامتها “حمل الكل على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها”. وحسب هذا المفهوم فالدولة هي الوعاء الذي يتمظهرُ فيه الدّين ليسُوس حياة المسلمين وقد كتب العديد من الفقهاء ليوضّحوا وينظّموا العلاقة بين الدين والدولة. وأبرزهم أبو الحسين علي الماوردي صاحب رسائل وكتب منها “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” و”نصيحة الملوك” و”قوانين الوزارة وسياسة الملك” و”أدب الدنيا والدين” وكتاب “تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك”، وغيره كثير.. وحذا حذوه كذلك الغزالي في كتابيه “البتر المسبوك في نصيحة الملوك” و”المستظهري”، وأبو بكر الطرطوشي في كتابه “سراج الملوك”، وإبن الحداد في كتابه “الجوهر النفيس في سياسة الرئيس”، والمرادي في “الإشارة في تدبير الإمارة”، وأبو حمو الزياني في “واسطة السلوك في سياسة الملوك” وابن الأزرق في “بدائع السلك في طبائع الملك”.
وقد مثلت كل هذه المصادر في الأحكام الشرعية مدارسا ومراجعا لإستصدار الفتاوى ضد “الساسة وولاة الأمور”، وكل من لا يلتزم “حدودها الشرعية” المبيّنة. كما أنّها كانت مرجعا للساسة لتبرير سياساتهم أو لإقامة البيّنة على الخارجين عن سلطانهم. وقد أهديت معظم الكتب الشرعية إلى الأمراء والملوك مثل كتاب “المستظهري” أو ما يعرف بـ”فضائح الباطنية” الذي قدمه أبو حامد الغزالي إلى المستظهر بالله العباسي (حكم من 1094 الى 1118 م) وقد كان الكتاب ولا يزال مرجعاً سُنّياً للفتاوى ضد الشيعة ومصدرا لتصنيف الفرق والمذاهب الدينية. ومثله فعل الحسن بن الصباح، صاحب قلعة آلموت في فارس وزعيم الطائفة الشيعة الإسماعيلية النزارية، أو ما عرف بالحشاشين، وقد ترأّس حكم طائفته من 1094 الى 1124 ميلادي، وقد مثلت كتبه مصدرا للفتاوى التي كانت تُوجّه أتباعه لكي يقوموا بعمليات إنتحارية وإغتيالات ضد زعماء وقيادات دول السلاجقة والأيوبيين.
إنّ تعدد المصادر والمراجع في موضوع السياسة والفتاوى الشرعية يدلّ على أنّ المسألة كانت موضوعاً هامّاً و”إشكالا” كان يجب الخوض فيه ولا زالت علاقة الديني بالسياسي موضوعا يشغل الباحثين إلى يوم الناس هذا.
العرب والأجندات السياسية:
سُلطة الفتوى وفتوى السُلطة
أيقن أو على الأرجح لُقّن كثير من حكام العرب وأمرائهم ومشائخهم وسلاطينهم أنّ ما لايؤخذ بالسلطان قد يطوّع بالأديان، وخلال حُمّى الصراعات السياسية المحلية والدولية التي تدور رحاها بالمنطقة العربية والاسلامية ونتيجة إدراك الساسة تجذر المسألة الدينية لدى أغلب شعوب المنطقة، سارعت كثير من الدول العربية الى الزج بفقهاء ومراجع الدين في الحروب السياسية حتى تكسب العامة، وللتدليل على انّ كل القرارات تؤخذ بفتوى شرعية وفي إطار “شرع الله” وضمن “حدوده”.
لقد تمظهرت الفتاوى الدينية في البداية ضمن صراعات ثنائية مثل التنافس الذي عرفته قطر والسعودية على الزعامة الدينية للمنطقة والتي نتجت عنه “حرب فتاوى” بين الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين القطري برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي وبين رابطة العلماء المسلمين السعودية، ولم تختصر الفتوى عليهما فقط، فقد استعرت حمى الفتاوى في حرب شطري اليمن حيث أُصدرت فتوى حكومية بضرورة التبرع لدعم الحرب واعتبروها غزوا دينيا مستشهدين بقوله (ص) “من جهّز غازياً فقد غزا”، كما عرف العراق خلال الانتخابات الأخيرة الفتوى والفتوى المضادة، حيث إعتبر الشيخ مهدي الصميدعي وهو فقيه سني أنّ المشارك في الانتخابات عاصيا، في حين خوَّن السيد أحمد الصافي، وهو عالم دين شيعي، من لا يشارك في الانتخابات. وكذلك في مصر حاول حسني مبارك سابقا الضغط على علماء الأزهر لإصدار فتاوى ضد ايران.
هذا غيض من فيض الفتاوى الدينية التي عرفت سوقها رواجا كبيرا في المرحلة الأخيرة خاصة اثناء الثورات والهبَّات الشعبية التي إجتاحت أغلب البلدان العربية، وقد كان أبرز المُفتين الشيخ يوسف القرضاوي الذي أثارت فتاويه جدلا واسعا وأسالت حبرا كثيرا ودماءا غزيرة.
لقد مثلت فتاوى القرضاوي حالة خاصة، تجاوز فيها كل حدود المعقول إنسانياً والمقبول دينياً، فقد أصدر على المقاس فتاوى “شيطانية” دعى فيها للحروب والقتل وبرر سفك الدم. ولقد دعا القرضاوي حسني مبارك للتنحي لكنه في المقابل أهدر دم القذافي ودعى إلى قتله وأفتى بجواز حملات “الناتو” على ليبيا والتي خلفت حسب مصادر عليمة اكثر من 23 الف قتيل من الرجال والنساء والاطفال عدا الجرحى والمعوقين، كما خلفت خرابا اقتصاديا ودمارا هائلا في البنية التحتية للبلاد من مؤسسات تعليمية وصحية وخدمية وعسّرت حياة الشعب، كما ساهمت في تفرق البلاد واستمرار التناحر والقتل والفوضى التي تثيرها المليشيات المسلحة الى أيامنا هذه..
لم يكفِ الشيخ القرضاوي ذلك بل وافق على العقوبات الاقتصادية التي أُتخذت ضد سوريا والتي ستجعل معيشة الشعب السوري ضنكى وساند الأعمال المسلحة التي تعيشها البلاد، وليس من المستبعد أن يكون الآن بصدد تفصيل فتوى أخرى لتبرير وتدويل الحرب عليها.
ليس لما يفعله القرضاوي أي مبرر ولا سند ديني ولا إنساني ولا يتطلب ذلك فراسة كبيرة لمعرفة ذلك فهو يُفتي بالشيء وضده، فلليبيين والسوريين الحق في تغيير انظمتهم لكن ذلك ممنوع على أهل البحرين، لهم ولمصر وتونس الحق في الديمقراطية لكن الديمقراطية حرام على شعب الخليج وممنوعة عنه، يدعو للانتخابات والبرلمانات في بعض الدول كأسلوب للحكم، لكنه في نفس الوقت يدافع على منظومات سياسية لم تعرف التعدد ولا حتى يوم واحد من تاريخها، لقد صدم القرضاوي الجميع حتى أكثر الفقهاء المحافظين. وحسب مصادر، شن الشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة هجوما عليه ووصف فتاويه بالمضللة للأمة والهادمة لمصالحها، وذكّره بفتواه ضد ليبيا التي خلفت آلاف القتلى الذين يقول السديس أنّ دمائهم في رقبة “مفتي الحروب” القرضاوي، كما ذكّر السديس القرضاوي بأنّ الاسلام يدعو إلى الحوار ولا يجيز للمسلم أن يستقوي على المسلم بالخارج مهما كانت المبررات.
الفتوى الشرعية والفرائض الغائبة
لا نعلم لماذا لا نسمع أصوات مفتيّينا تتعالى إلاّ إذا أطلت الفتنة برأسها، فيسكبوُن الزيت على النار وينصرون هذا ويخذلون ذاك، لماذا لا نسمع فتاوى تدعو الى نبذ الاستغلال والقهر والاستبداد، لماذا لا نسمع فتاوى تدعو الى توزيع أموال النفط والغاز التي تصرف في القمار والملاهي والنوادي الليلية للمساهمة في القضاء على البطالة والفاقة في بلداننا، لماذا لا نسمع فتاوى تُكفّر الحكام اذا لم يساهموا في اطعام جوعى الصومال أو لبناء السدود والمدارس في بلدان المسلمين وغير المسلمين الفقيرة والمعدمة، لماذا لا تتعالى الفتاوى لتستنكر تبذير الاموال الطائلة المكدّسة في الخارج لتعود لبناء مراكز للبحوث العلمية والطبية والتكنولوجية، لماذا لا نسمع الفتاوى الداعية الى رفع التأشيرات المفروضة على العرب لدخول بلاد العرب، لماذا لا نسمع الفتاوى التي تدعو إلى توطين عرب الدول الفقيرة والكثيرة العدد في البلدان العربية الغنية والقليلة العدد، لماذا لا تستنكر الفتاوى تجنيس غير العرب في بلدان الخليج في حين يمنع الطفل العربي المولود فيها من الحق في الجنسية والمواطنة، ولماذا تُمنع قبائل البدُون من المواطنة والتعليم وتحاصرهم الدول الخليجية على الحدود، لماذا لا نسمع الفتاوى التي تُؤكد المساواة بين المسلمين وتنبذ التفرقة على الأساس المذهبي، لماذا لا نسمع الفتاوى التي تُجرّم القتل والحروب مهما كانت المبررات وتؤكد على حرمة الانسان، لماذا لا نسمع الفتاوى المنددة بتوقيف وسجن الآلاف من المواطنين والسياسيين الخليجيين في السجون أغلبهم بدون محاكمة، لماذا لا نسمع الفتاوى الداعية الى إقامة البرلمانات وإرساء سُنّة التداول على السلطة في كل البلاد العربية والاسلامية؟
كلها فرائض غائبة كان على الفقهاء واصحاب الفتاوى أن يذكروها ويؤكدوا عليها ويدعوا اليها بإيمان وإصرار كبيرين.
فهل يعلم فقهائنا وعلمائنا ومراجعنا انّ الفتاوى سلاح ذو حدين إذا وُظّفت للبناء والتنمية السياسية والبشرية والاقتصادية كانت فتاوى الخير على الجميع وإذا وُجّهت لخدمة الصراعات والتناحر كانت معاول للهدم.
فهل يعقِل أولو الألباب قبل أن يفوت الأوان أم تظل على قلوبهم وضمائرهم أقفالها؟
Leave a Reply