لا يوجد بلد أكثر سيباناً وفلتاناً من “شبه الوطن”.
بلد مباح، كل مواطن فيه ليس خفيراً بل “أميراً” من الأمراء يفعل ما يشاء ويقطع ما تيسر من الطرقات، وفيه السياسي المنافق والمتبدل والمتحول والكاذب و”الآدمي” الذي يحاضر في العفة!
من يصدق أن التشنجات المذهبية والطائفية بلغت حداً الى أن أحد الفارين من الخدمة العسكرية، علي إبراهيم غوش من بلدة برجا، غادر ولم يعد إلى منزله وأغلق هاتفه الخليوي فهبت عائلته وأهل بلده إلى طريق بيروت-الجنوب الحيوية الإستراتيجية والشريان الأساسي للمواطنين هناك، وقطعوا الطريق لمدة ثلاث ساعات كاملة ظناً منهم أن إبن البلدة البار قد إختطف أو قتل وحتى أصبح موجوداً في سوريا! وسرعان ما تبين أن غوش لم يلتحق بمركز عمله العسكري وأن له سوابق في الفرار من الخدمة، لكن رغم هذه المعلومة “الصغيرة” استنفر الأهالي وصاحوا صيحة الحرب وأخذوا القانون بأيديهم فأحرقوا الإطارات ومنعوا السيارات، وعندما عبرت إحدى السيارات بقوة زنار النار ألمح أحد المتظاهرين النشامى إلى أنها سيارة طائفية جاءت من منطقة معينة قال إنه لا يريد أن يذكرها. نحن سنعفي المتظاهر من الإحراج ونكشف أنه يقصد أن السيارة هي من “الضاحية الجنوبية”.
ما شاء الله، كيف عرف صاحبنا أن السيارة أتت من “الضاحية”؟ هل حدثت معجزة وأنطقت السيارة؟
إذاً، فإن المتظاهرين يعلمون أن الطريق الدولية إلى الجنوب هي معبر مهم جداً لأهل “الضاحية” الذين ينتمي معظمهم إلى جبل عامل والبقاع، وأنهم عندما فقدوا إبنهم الفار لم يجدوا إلا الطريق الدولية والضاحية الجنوبية “مفششة خلق”. وما المانع في بلد العصر الحجري؟ المشكلة ليست في حرية الرأي والتعبير للمواطنين الذين لم يعودوا يجدون متنفساً لهم عن الهموم المعيشية إلا حرق الإطارات في وجه “حديثي النعمة” وطبقة الـ٤ بالمئة. لكن الخطورة في قطع طريق الجنوب، أنه يفترض أن كل الخطف والمشاكل والقتل مصدرها طائفي واحد حسب الإعلام المدفوع عليه ملايين الدولارات، وبالتالي فالعقاب جاهز لخنق الناس في ممر عبورهم الحيوي. لهذا الدرك اوصلنا “تويتي بيرد” وصحبه.
من منا لا يذكر ذلك الشيخ الذي “خطف” نفسه ولازم بيته متسلياً بالكمبيوتر مما كاد يتسبب بمجزرة مذهبية بعد تهديد والده ثأراً لكرامة لفة الشيخ؟! لذلك، من الآن فصاعداً إذا تأخر أحدهم في سهرة مع رفيقته ولم يسرب على البيت إلا مع ساعات الفجر الأولى، علينا أن نتوقع قطع طريق الجنوب!
ومن القطع الجغرافي إلى القطع السياسي… في الأخبار أيضاً ودائماً، اليانصيب اليومي البشري وليد جنبلاط الذي تحسر على قرار وزير الثقافة عدم إدراج “ثورة الأرز” في المناهج المدرسية. أنا أضم صوتي إلى صوت جنبلاط، شرط أن يعدد انجازات هذه “الثورة” التي زبلها في وقتٍ ما، ليس ببعيد من خلال استدارته المليونية الجديدة، مثل منح بولتون وسام الأرز وملحمة “مرجعيون-غراد” (نسبةً إلى ستالينغراد) بقيادة المارشال فتفت بطل مجزرة الرمل العالي (وإن ننسى فلا ننسى إنجاز مجزرة “حلبا” والقائد خالد الضاهر!)، كما أتمنى لو يفسح جنبلاط عن دوره الطليعي في قرار حكومة السنيورة غير الشرعية في ٥ أيار والتي أدت إلى “تأديبة ٧ أيار” وساعة تجلي جنبلاط! وليس أسخف من إقتراح جنبلاط إلا رؤية مشهد أكرم شهيب المنفر وهو ينضم للمتظاهرين في عالية من أجل الكهرباء، هذه المنطقة التي تنعمت بالسياحة والموارد الجنبلاطية أكثر من كل لبنان.
جنبلاط في مقالة نشرتها جريدته الحزبية دعا إلى الحد الأدنى من الإستقرار في لبنان، أمام إنقسام اللبنانيين حيال سوريا. هذا التصريح الأكثر تهذيباً لوليد لجنبلاط عن سوريا، والظاهر لم تُجدِ زيارة فيلتمان وقطر.
ربما يعلم جنبلاط أنه قد بان جلياً دور مشيخة قطر التي “تفشخ” بخطوات أكبر منها، وأخطرها ما تحاول رسمه للمنطقة من “حلف بغداد” مذهبي جديد يمسخ الصراع العربي-الإسرائيلي ويسعر الحرب ضد العدو الفارسي الجديد. هذا المخطط لم يتمكن صدام نفسه من تحقيقه لأسباب ذاتية وموضوعية، لكن قطر اليوم تعتبر نفسها أنها تملك حظاً أكبر من صدام من خلال اعلامها والقاعدة العسكرية الأميركية فيها. أمير قطر زار لبنان بعد العدوان الإسرائيلي وشجع المقاومة وساهم في العمران، رغم شغفه بتسيبي ليفني ومكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي. وبعد أن كسب ثقة العرب واللبنانيين بمصالحتهم في الدوحة، إنغمس في “ثورة الربيع العربي” و”فتّ” الملايين من الدولارات من أجل صعود التيار السلفي الذي أتحفنا على مر السنين بعدائه لإسرائيل والغرب فإذا هو يتحول بين يوم وليلة إلى مهادن ومحاور ومطمئن لإسرائيل والغرب. وبسبب “حلف قطر الجديد” تشارك قطر في مؤتمر هرتسليا في فلسطين المحتلة جنباً إلى جنب مع الأردن ومحمود عباس. ولهذا السبب تغازل قطر حركة “حماس” فتستقبل خالد مشعل وترسله لمصالحة ملك الأردن فينال “هبة” أردوغانية قدرها ٣٠٠ مليون دولار، ولهذا السبب تحاول قطر فعل المستحيل: مصالحة “طالبان” مع أميركا لأن العدو مشترك وقطر تسعى إلى “سمكة” أكبر لكي تقليها، حسب المثل الأميركي. يا حيف على المبادىء كيف تضمحل! كم صمدت سوريا أمام كولين باول الذي قدم للرئيس الأسد لائحة من ١٣ شرطاً بعد إحتلال العراق، أولها طرد “حماس” و”الجماعة الإسلامية” من دمشق، فرفضت شروطه؟ وكم قدمت سوريا للقضية الفلسطينية حتى تتخلى “حماس” عنها بهذه السرعة في وقت الشدة؟
قطر تحاول بكل الوسائل إنشاء حلف مذهبي يمتد من تركيا إلى أميركا والعقبة الوحيدة أمامها هي سوريا بعد أن وقفت “حماس” بالصف، لأن سوريا هي من اللون الطائفي المطلوب، والفتنة بين السنة والشيعة هي الوحيدة التي تخمد روح المقاومة وتحقق أهداف الإستعمار وتنشل إسرائيل من الخطر الوجودي عليها. إنها معركة كسر عظم قد تحدد مصيرالمنطقة برمتها.
بدلاً من قطع طريق الجنوب، لنقطع طريق الفتنة والحلف الخطير الجديد!
Leave a Reply