طموحات التحالف الغربي-العربي تصطدم بالعناد الروسي-الصيني والتماسك السوري
دمشق، نيويورك – بعد ١١ شهراً من اندلاع الأزمة السورية، تقف دمشق أمام احتمالين: إما أن يتغير التماسك في المحور السوري-الإيراني-الروسي-الصيني، وإما أن يتفكك المحور المقابل الأميركي-الأورربي-العربي- التركي بتراجع أحد مكوناته…
وصراع هذين المحورين، انتقل الأسبوع الماضي الى أروقة مجلس الأمن، أمام معضلة تعقيدات الوضع السوري، فلا التدخل العسكري المباشر ممكن، ولا إزالة النظام بالقوة قابلة للتنفيذ، فلا بد اذاً من تسوية في مجلس الأمن تحفظ ماء وجه أطراف المحور المعادي لسوريا من هزيمة تلوح في الأفق.. ولا بد للتسوية أن تكون مغرية كفاية لروسيا لتوافق على قرار يقتصر على وقف العنف والحوار. لكن التسوية أيضا تبدو شديدة الصعوبة لأن تضارب المصالح عالميا في أوجه مع صعود العملاقين: التنين الصيني والدب الروسي اللذين يتجهان لاستغلال صمود نظام دمشق الذي أثبت نجاحاً باهراً وغير متوقع في مواجهة الهجمة الإعلامية-الدبلوماسية-العسكرية-الاقتصادية، ليكرس العملاقان، عملياً، نهاية سياسة القطب الواحد التي هيمنت على العالم لمدى عقدين وأكثر.
على الأقل، لا مجال بعد جلسة الثلاثاء الماضي في مجلس الأمن، أن يبقى مطلب تنحي الرئيس بشار الأسد قائماً.. والبحث عن التسوية بات يقتصر على إيجاد صيغة جديدة للمطالبة بوقف العنف، حسب مصادر دبلوماسية روسية. فالمحور الأميركي-الأورربي-العربي-التركي، وجد نفسه، الثلاثاء الماضي، في مأزق غير متوقع بعد أن نجحت قطر في إيصال الملف الى مجلس الأمن. فقد اصطدم المشروع “المخفف” المطالب بإبقاء نظام دمشق على أن يتنحى الرئيس السوري (حسب المبادرة العربية الثانية) بعناد روسي-صيني وموقف سوري صلب أبرزه مندوب دمشق لمجلس الأمن الدكتور بشار الجعفري الذي رفض أي تدخل في شؤون بلاده. كما أن توجه هذا المحور الى مزيد من “تخفيف” المشروع لم يلق آذاناً روسية صاغية، فأكدت موسكو أنها لا تقبل بالمساس بسيادة سوريا، رغم توجه الأوروبيين لإعادة صياغة المشروع (مع صدور هذا العدد).
أمام كل هذا، يجد “محور إسقاط النظام السوري” نفسه أمام مقامرة بالغة الخطورة في طرح المشروع للتصويت، فالنجاح خطير والفشل أخطر.
رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم الذي رافقه أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي حاول بشكل سافر تدويل الازمة، رغم أنه قبل أشهر قليلة كان كل العرب يؤكدون ان لا نية للتدويل.. إلا أن صمود نظام دمشق دفع ساسة الدوحة الى محاولة يائسة ترجو أن تبدّل موسكو رأيها..
وبالفعل نجحت روسيا كذلك في أن تصبح محور الاهتمام الأول في مجلس الامن. فبات الغرب وخلفه العرب يخطبون ودها لاستدرار توقيعها على مشروع قرار مشترك. فتلذذ فلاديمير بوتين، ومن خلفه الرئيس ديمتري ميدفيديف، برفض المطالب الغربية-العربية بشأن سوريا انتقاما من التدخل الغربي في بلاده. يده على الملف السوري، وعينه على آخر تصريح للخارجية الاميركية أعربت فيه عن “خيبة أملها” حيال رفض السلطات الروسية ترشيح المعارض غريغوري يافلينسكي للانتخابات الرئاسية. سيبقى بوتين صلبا في موقفه على الاقل لتمرير الانتخابات في 4 آذار (مارس) المقبل بأقل خسائر ممكنة.
النتيجة بعد تلاطم المحاور في مجلس الأمن طوال الأسبوع الماضي أنه لا روسيا ولا الصين ستقبلان بتغيير للنظام السوري بالقوة. وأن المحور الآخر بدأ يتضعضع.
فقد سأل المسؤول الأمني الفرنسي الذي زار بيروت مؤخرا عن حقيقة السلاح والمسلحين في سوريا. قال ان باريس لا تعرف كيف يمكن سقوط الاسد ولا تعرف ماذا سيحل بسوريا لو سقط الرئيس. أشار الى ضبابية في الموقف التركي توحي بتراجع أنقرة. والسوريون بدورهم يعرفون لماذا أحجم الأتراك عن اندفاعهم حتى ولو بقيت التصريحات شاجبة. ثمة أمور أمنية لا تعرفها سوى أجهزة البلدين. ويعرف السوريون ايضا ان الجيش الاردني قتل شابا قبل فترة قصيرة لأنه حاول تهريب سلاح الى سوريا. القرار الامني الاردني حاسم بضرورة عدم التدخل. أما العراق فهو أكثر من أي وقت مضى سائر خلف الرغبة الايرانية في مساعدة سوريا اقتصاديا.
الأميركيون بدورهم حائرون. هم يريدون إسقاط الاسد لأن لا خيار آخر لديهم الآن. ماذا يفعل باراك أوباما؟ هو قال منذ شهر نيسان الماضي ان على الأسد الرحيل. كرر الامر في بيان مشترك مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا في منتصف آب الماضي. ولم يحصل شيء. ما زال الاسد قادرا على النزول الى قلب دمشق يخطب بشعبه دون ارتداء واق للرصاص ومعه زوجته وأبناؤه. كل يوم يمر مع بقاء الاسد في السلطة هو خسارة لأوباما وساركوزي قبيل الانتخابات الرئاسية في بلديهما. هل يتركان الاسد في السلطة حتى الانتخابات؟ الأمر صعب، ولكن كيف؟
الجواب، يعتقد الغربيون، يكمن في تشديد الخناق على ايران في الوقت الراهن. حيث سيعمل الغرب أيضا على تحويل الانتخابات الايرانية القريبة الى مشكلة داخلية ايرانية.. في محاولة لضرب محور الممانعة من البوابة الإيرانية مع إيصاد البوابة السورية بوجههم.
وأمام تطورات مجلس الأمن الإيجابية، في عين دمشق، كانت سوريا قد بدأت حملة الحسم العسكري ضد الجماعات المسلحة في أراضيها (المدعومة من محور إسقاط النظام). لكن التحرك السوري اللافت ميدانياً تمتع بغطاء روسي واضح، بعد أن كان “الحسم العسكري” خطاً روسياً أحمر طيلة الأشهر الماضية، حيث أبلغت موسكو مرارا القيادة السورية بضرورة التروي والإبقاء على علاقة جيدة مع الجامعة العربية، لكن الأمر تغير في الأيام الماضية…
وأمام التحول الروسي تظهر كلمة السر، وهي “المراقبون العرب”. فقد نجح النظام السوري في تحويل “فخ” المراقبين لمصلحته، حيث كان يراد للمراقبين أن يشجعوا على التظاهر، فاكتشف المراقبون أن الوضع على الارض مغاير للكثير مما تبثه الفضائيات. يقول تقرير دبلوماسي غربي ان خطة متكاملة كانت قد وضعت لاحتلال بعض الساحات الكبيرة في المدن الرئيسة وبينها دمشق من قبل المتظاهرين مع وجود المراقبين، بحيث تتحول الساحات الى ما يشبه ميدان التحرير في القاهرة. لم يتحقق شيء من ذلك، لا بل تحقق العكس تماما، حصل النظام السوري على اعتراف من فريق المراقبين، وخصوصا من رئيسه الضابط السوداني محمد الدابي، بأن في المدن والارياف السورية مسلحين.
وجد النظام السوري في المراقبين ما كان يبحث عنه طويلا. حصل على اعتراف عربي بوجود مسلحين من جهة، وعلى غطاء روسي للقضاء على المسلحين من جهة ثانية. يضاف الى كل ذلك ان قطاعات من الشعب السوري صارت تشعر بضيق شديد من انعدام الأمن في مناطقها فصارت تطلب وجود الجيش حتى ولو كانت ضمنياً من المعارضة.
القراءة الامنية السورية استقرت على ان استمرار الوضع على ما هو عليه، يعني السماح بتوسيع رقعة المسلحين وتشجيع الناس على التظاهر أكثر. انتشر السلاح على نحو بات يهدد بـ”كسر هيبة” الدولة التي أصيبت أصلا بلكمات كثيرة كان أبرزها تفجير أبرز مقار الأمن والاستخبارات في دمشق.
من الصعب تصور اتخاذ القرار الامني بالحسم من دون تنسيق دقيق مع الروس وعلى الأرجح مع الايرانيين. المعركة لم تعد محصورة بسوريا. تسلسل الأحداث يوحي بأن موسكو وطهران ودمشق تخوض من على الأراضي السورية حربا استراتيجية بامتياز. لا مجال للفشل أو التراجع. الحسم الكامل اذاً هو الخيار الاستراتيجي. لن تكون حمص وحماه وغيرهما استثناء بعد السيطرة على ريف دمشق. الدعم الروسي لا يقتصر على السياسة وانما ثمة تنسيق أمني دقيق جدا وأسلحة روسية جاءت الى ميناء طرطوس مرارا.
لم ينتبه كثيرون الى الكلام الخطير الذي أدلى به وزير الخارجية الروسي قبل أيام. قال الدبلوماسي العريق ان بعض دول مجلس الامن يستخدم الوضع في سوريا لتحقيق مصالح جيوسياسية ذاتية وان “هذا الموقف هو من القرن الماضي ويعكس سيكولوجيا قديمة ينبغي التخلص منها”. وصل الأمر بالرجل الى حد توجيه اتهامات مبطنة لدول الخليج، كلام ما كان وليد المعلم نفسه سيقول أقسى منه في توصيف ما يحصل دوليا وعربيا.
يعتقد الغربيون أن تشديد الخناق على ايران كبير الاهمية في الوقت الراهن. سيعملون أيضا على تحويل الانتخابات الايرانية القريبة الى مشكلة داخلية ايرانية. سيصار الى تأجيج المعارضة الداخلية وإسماع أصوات كثيرة من الخارج، وثمة من يتحدث عن احتمال وقوع حوادث امنية ومصادمات عنيفة.
ماذا حصل في مجلس الأمن
المواجهة العربية-العربية الحادة التي شهدها مجلس الأمن، وسبقت الحفل الخطابي الغربي الذي نظم حول الأزمة السورية وشارك فيه اربعة وزراء خارجية غربيين، أعادت طرح السؤال حول مبدأ التدخل الخارجي، العربي والدولي اللذين سقط الفارق بينهما، في سوريا، ومهّدت لإحباط قرار الجامعة العربية المفاجئ والغريب بالذهاب في مشكلة داخلية في بلد عربي إلى أعلى هيئة دولية، حتى قبل أن تضطر روسيا والصين الى استخدام حق النقض (الفيتو) على هذا الانتهاك لميثاق الأمم المتحدة وعلى ذلك التورط الخطر الذي يمكن ان يزيد الحريق السوري اشتعالاً واتساعاً.
كانت المواجهة التي افتتحها حمد بن جاسم واستكملها نبيل العربي، قبل ان يرد عليهما المندوب السوري بشار الجعفري بلغة الشعر والتاريخ والسياسة العربية، هي الأكثر إثارة في جلسة استعراضية رتيبة خلت من أي مفاجآت في كلمات وزراء خارجية اميركا وفرنسا وبريطانيا والبرتغال، التي وزعت سلفاً وحددت سقف الموقف المشترك الذي يدعم مبادرة الجامعة العربية، وينكر تهمة التدخل الخارجي، في شقه العسكري في هذه المرحلة، لكنه يرتكز على المبادرة العربية لكي يبدي استعداداً ضمنياً للمضي قدما تحت شعار الدفاع عن الشعب السوري، وتطوير اشكال التدخل السياسي والاقتصادي المعتمدة حالياً.
لكن الموقف الحاسم الذي عبّر السفير الروسي فيتالي تشوركين، فضّ الحفل الخطابي وبدد التواطؤ العربي- الغربي، وأعاد التذكير بما فات المسؤول القطري والامين العام للجامعة عن الحاجة العالمية الى تشجيع الحوار الداخلي وليس الصراع الأهلي في سوريا، وجدّد اقتراح استضافة مثل هذا الحوار الوطني السوري في موسكو، وطالب بإقناع المعارضة السورية بالقاء السلاح والجلوس حول طاولة الحوار، معبراً عن رفضه للنص الذي صاغه المندوب المغربي باسم الجامعة العربية والدول الغربية. وهو ما فعله المندوب الصيني لي باو دانغ الذي شدّد على ضرورة انهاء جميع اشكال العنف في سوريا وافتتاح عملية سياسية تشمل جميع الاطراف في سوريا بما يمكنهم من الخروج من الأزمة بمساعدة المجتمع الدولي، وبناء على المساعي العربية التي تمنى لها النجاح، ثم أعلن تأييده لمشروع القرار الروسي.
وافادت الانباء (مع صدور هذا العدد) ان النقاش ما زال مستمراً حول مشروعي القرارين المغربي والروسي من أجل تعديلهما والتوصل الى نص مشترك، وهو ما يمكن ان يستغرق الايام القليلة المقبلة، لكنه لن يسفر عن أي نتيجة سوى الذهاب الى التصويت عليهما واستخدام “الفيتو” من قبل الدول الخمس الدائمة العضوية.
ويدعو مشروع القرار الذي قدّمته دول عربية وغربية الى مجلس الامن الاسد الى انهاء اعمال “العنف” ضد المعارضة ونقل “كل السلطات الى نائب الرئيس” كبداية لعملية انتقال ديموقراطي. لكن مشروع القرار يهدد “بإجراءات أخرى” اذا لم يلتزم الاسد به بعد 15 يوماً. ويؤكد القرار انه لا يجبر الدول على “اللجوء الى استخدام القوة او التهديد باستخدام القوة”، وقال دبلوماسي إن تلك العبارة تهدف الى تهدئة مخاوف روسيا والصين، لكنها لم تنجح في ذلك.
Leave a Reply