رغم أنها أيام تتعالى فيها آلام السوريين وتسفك فيها دماؤهم بشكل بربري، إلا أن الوجع والمغص الذي يسببه بعض السوريين المقيمين في أميركا لا يقل إيلاما عما تسببه صواريخ القصف العشوائي التي تصب أحقادها على مدينة حمص. ففي الوقت الذي ولدت فيه الثورة السورية وترعرعت وشبت عن الطوق في وجه أعتى نظام ديكتاتوري وبوليسي، مايزال بعض السوريين الأميركيين، “الثائرين” بدوام جزئي، مرعوبين وخائفين بعد أحد عشر شهر من انطلاق الشرارة المقدسة، ويتراشقون بتهم العمالة والتجسس لصالح “المخابرات”.
من المثير للسخرية، أن ترى بعض السوريين المتظاهرين في شوارع المدن الأميركية، وهم يتهربون من الكاميرات، أو يلثمون وجوههم، أو يتوجسون شرا إذا ما سألتهم عن أسمائهم أو أرقام هواتفهم، والأنكى أن بعضهم مايزال يناضل ويجاهد على “الفيسبوك” بإسم مستعار، وصورة مستعارة لبروفايل ثائر هادر، ويحدث كل هذا في الوقت الذي يخرج فيه إخوانهم في القرى والمدن السورية، أطفالا ونساء وشيوخا، في وجه الدبابات والقناصين والشبيحة. ويحدث كل هذا بينما يتضور السوريون جوعا وعطشا ويعانون برد الشتاء وانقطاع الكهرباء والخطوط الهاتفية.
في أول تعليق لي على الثورة السورية التي لايزال البعض يرفض أن يسميها ثورة، قلت لكاميرا قناة “الجزيرة” في ديربورن: إن الثورة السورية لم تحرر السوريين في درعا واللاذقية وحمص فقط، وإنما حررت السوريين في واشنطن ونيويورك وباريس ولندن، وهي بالتالي ثورة عابرة للقارات. حصل ذلك في بدايات الثورة عندما جاء فريق “الجزيرة” من واشنطن ليلتقي بعض افراد الجالية السورية في ميشيغن، وبقي الفريق لمدة أربعة أيام من دون أن نجد سوريا واحدا يوافق على الوقوف أمام الكاميرا..
ألا يقول السوريون: إن جدار الخوف قد تحطم! فما الذي يخيف السوريين الأميركيين من بعضهم؟ لماذا يتهمون الآخرين بالعمل مع المخابرات. ولماذا لايزال السوريون يخافون من المخابرات وهم على بعد سبعة بحور منهم؟ هؤلاء الذين يعيشون خارج التاريخ وخارج الثورة الحقيقية لا يعرفون أن المخابرات السورية تريد هذه الأيام سلتها بدون عنب.
لقد أخضعنا النظام السوري طوال عقود بتهم التخوين والتشكيك بولائنا للوطن، وينتهج بعض “المعارضين” السوريين “الصغار” نفس سياسة النظام بالتخوين والتشكيك. وما يدعو للرثاء والألم فعلا.. أن الثورة تأكل أبناءها، فالشجعان والشرفاء يموتون ويسقطون يوميا، وأغلب الظن، أن الجبناء والأدعياء سيقطفون الثمار، والساحة الآن، على كل حال، لا تخلو من المنافقين والمتسلقين والمتباكين، الذين صمتوا طوال عقود في أميركا وأوروبا، صمت القبور.
يتحجج البعض من هؤلاء، بأن لهم أقارب يعيشون في سوريا، ويظهرون خوفا على أقربائهم من بطش قوى الأمن والجيش والشبيحة. وهذا قول حق يراد به تبريرات جوفاء. إن ثمن مواجهة النظام معروف، فمن يريد أن يواجه فيجب عليه أن يكون مستعدا لدفع الثمن، وإلا فليصمت، وليتوقف عن التباكي والمسكنة.
إن هذه الأيام تؤسس لتاريخ جديد في سوريا وعلى السوريين أن يمتلكوا الشجاعة في جميع الأماكن والمواقف ليقولوا كلمتهم وليعبروا عن آرائهم بغض النظر عن الاتجاه الذي تصب فيه. وهذه الشجاعة يجب ألا تقتصر على نقد النظام وشتيمته، بل أيضا نقد بعض فرقاء المعارضة الذين يلعبون بشكل مكشوف وبغيض في بورصة الدم السوري، المهدور بكثرة في هذه الأيام!
أما أقسى الآلام التي يمكن أن يتجرعها المرء، فهي رميه بالتهم من قبل الخصوم والحلفاء على حد سواء. ما أقسى أن يتهمك المؤيدون للنظام بأنك تكفيري وعرعوري، بينما يتهمك المعارضون بأنك مخبر أو شبيح. ويحدث في كل الأوقات أن يعجب المرء بخصم شجاع ومبدئي، ويقرف من “حليف” جبان ومتخاذل…
Leave a Reply