جمال ديراني إنسان كنت لا أعرفه وتعلمت كيف أعرفه.
من خلال الإذاعة العربية المحلية، تعرفت على أصوات عديدة لمذيعين ومذيعات، و”من غير شر” يسمون أنفسهم إعلاميين وإعلاميات، لكثرة المستمعين المتصلين بهم إعجابا شبيها بإعجاب “سيد المجتمع” بـ”جوزته”، أو سيدة المجتمع بصديقها السهران معها.
وبما أن الأصوات كالعيون، والشفاه والعواطف والأزمات الاقتصادية لا يتشابه فيها اثنان، وكما أنه ليس في الدنيا كلها وعلى مدار الزمان وجهان هما وجه واحد، وحبان هما حب واحد، وحالتان هما حالة واحدة، فإنه لا يوجد صوتان هما صوت واحد. وهذا ما كان عليه صوت الأستاذ جمال ديراني المذيع والإعلامي المثقف، والذي كان يدير برامج إذاعية عديدة متنوعة تسلط الضوء على تجارب إبداعية وثقافية، وبأسلوب المحاور الجيد وصاحب الخبرة وما يملكه من حنكة وخفة ظل، كان يقدم للمستمع المعلومة والحكمة بأسواب “ديراني” ظريف لا تملك وأنت تسمعه إلا أن تضحك ساخرا من هموم الدنيا ومتاعبها.
ولندرة البرامج الإذاعية الراقية بين البرامج السخيفة هنا في ديربورن، وأنا الهاربة حديثا من التفاهات على إذاعات لبنان وسائر الشرق، كنت أجد في الاستماع لبرامج الأستاذ جمال ديراني متعة وفشة خلق يذكرني بمرح وخفة الراحلين رياض شرارة وحكمت وهبة.
فجأة توقف برنامجه، ولم أعد أعرف عنه شيئا. افتقدت صوته كثيرا. بعد سنوات، ومن خلال “صدى الوطن”، كان لي الشرف أن أتعرف عليه وألتقيه، فوجدته إنسانا مثقفا ومتأملا وساخرا جريئا وصوفيا عميقا وشمعة ينزف ضؤوها، ليذرف هو كلامه الساخر من فم مجبول على الابتسام. وهو صادق في كلامه وابتسامته الودودة ولديه حساسية مرضية تجاه المدعين والمزيفين.
كنت أتمنى أن أتعرف عليه بظروف غير التي كان فيها. شعرت بحزن عميق، كون غيابه طوال تلك السنوات، كان بسبب المرض وسوء الأحوال وقلة الوفاء وابتعاد الخلان والأصحاب والجحود ممن أفنى سنوات عطائه محبةً وخدمةً لهم على حساب وقته وأعصابه ومشاعره المرهفة.
إنها الحياة يا صديقي فلا تحزن كثيرا!
ورغم المرض فالأستاذ جمال ديراني قلما يشكو أو يتذمر. إنسان لطيف خفيف الظل والوزن، يميل إلى المزاح والمعابثة بصورة كاريكاتورية راقية وساخرا من هذه الدنيا والأيام والغربة القاسية، مضيعة النسب كما يقول عن نفسه، فهو المواطن الذي بطحه زعماء وطنه الأبرار، ونطحه الوزراء الشطار، وشرشحته الدنيا وأكله الدولار وأحرقته النار فهاجر في ليلة ما فيها ضو قمر. فماذا وجد في ديار الاغتراب؟
وجد نفسه المغترب العزيز الذي تعمل من أجله المؤسسات والمنظمات وتنعقد من أجله الاجتماعات حول موائد الغداء أو العشاء. ولكن، كالكثيرين من المهاجرين إلى أرض الأحلام، نظر جمال إلى حاله في المرآة فوجد نفسه وحيداً وبكى على اليوم الذي ولد فيه.
لكن البكاء لا ينفع يا عزيزي. احمل قلمك واكتب. افتح كنز المعرفة المكنون في صدرك، وانشره كالشعاع الساطع في هذا الجو الخانق والفاسد في الجالية. وبالفعل كانت زوايته “مساحة للزعل”.
الأسبوع الماضي، اتصلت به بعد انقطاعه عن الكتابة. عتب علي بطريقته الساخرة: “ما سألتي علي زعلت كتير، وعا قد المحبة العتب كبير”. الحقيقة كنت خائفة أن أسمع عنه أخبارا غير سارة ولا أحب ولا أتمناها له، ولأول مرة شكى الألم في عينيه!
شفاك الله أيها الأستاذ الرائع وأعادك إلينا وإلى قلمك الرشيق ومساحتك التي أبعدت عنا، ولو لمدة قليلة.. الزعل!
Leave a Reply