إنه امرٌ أغرب من الخيال، هذا الحلف غير المقدس بين إسرائيل والغرب والسلفية، الذي يتزعم اليوم ثورات “الربيع العربي”! كم تأملنا خيراً عندما هبت الشعوب العربية في وجه الطغيان بعد صمتٍ طويل، وأرادت الحياة الحرة الكريمة (ليس على طريقة حب الحياة في جوقة صغار ١٤ آذار). لكن تبين أن “الربيع العربي” هو خليطٌ عجيب من “الليفية” (نسبةً للصهيوني هنري ليفي)، والعرعورية-القرضاوية المذهبية المتحالفة موضوعياً مع إسرائيل، المتربصة بنا شراً دائماً، تظللها جماعة “الإخوان المسلمين” الحريصة هذه الأيام الرديئة على عدم إثارة حفيظة إسرائيل. وأخيراً، وليس آخراً، تنظيم “القاعدة” حيث من تظاهر الزمان علينا أن يساند الظواهري “الثورة السورية” تحت سمع وبصر أميركا والغرب. ولا يخفف من وقع المفارقة إدعاء الناكر للجميل، وليد جنبلاط، أن ظهور الظواهري هو خدعة مخابراتية. وربما الإنفجارات الإرهابية في حلب أيضاً ضد الأمن السوري هي من صنع المخابرات السورية! في الواقع، هذا المرض والهوس لا يدور إلا في خلد من كان له عقل جهنمي أو من كان على عينيه غشاوة! كان الأحرى بجنبلاط، كرمى لبعضٍ من تاريخه الوطني، أن يتحدث عن خدعة تفجير إسرائيل لسفارتيها من أجل إتهام المقاومة وإيران.
قد لا نستغرب غداً أن نرى جماعة “المنعور” الملا عمر و”طالبانه” وهم “يجاهدون” في دمشق، وبمباركة أميركية، ضد النظام “الكافر” الذي مازال الوحيد بين بني يعرب يعادي إسرائيل. للأسف، قد تكون “ثورات الربيع العربي” من أسرع ثورات الكون مصادرةً من قبل قوى الردة والتخلف. حتى الثورة الفرنسية لم يحرفها الديكتاتور روبسبيير بهذه السرعة الفائقة، بينما “الربيع العربي” أصبح أقل من “الخريف الداكن” بعد النظام الذي نشأ في تونس على أنقاض “زين الهاربين”، و”المجلس العسكري” في مصر وصراع القبائل في ليبيا. تونس، التي اختارت رئيساً كان متسكعاً على أبواب أمراء الخليج ووزير خارجية كان مذيعاً عند حمد بن جاسم، وليبيا التي تضمن إنجاز حكامها الجدد، وهم من زبانية “مدمر القذافي” الهالك، المماطلة في قضية الإمام موسى الصدر ورفيقيه، ونسف تمثال للزعيم جمال عبدالناصر الذي كان أول من وعى خطر السلفية الدموية وحذر منها، كلها مشاهد تبعث على “الإحباط العربي”. لماذا تريد ليبيا وتونس أن تكونا رأس الحربة ضد سوريا التي دافعت عن العرب أجمعين في السعودية والكويت ولبنان وكانت “بوز المدفع” في الجبهة الأمامية ضد العدو بينما كان الغير يتنعم بالبترودولار والإستقرار؟
لقد عرف الإستعمار الجديد كيف يلتقط اللحظة التاريخية من أجل إعادة صياغة سيطرته على العالم العربي رغم الإنتفاضات الشعبية ضد الأنظمة التابعة لأميركا، والحل كان بحرب إستنزاف حتى لا تقوم قائمة للشعوب العربية. ذلك أن الحرب العسكرية التقليدية أصبحت عالية الكلفة وباهظة الخسارة، وأصدق مثال على ذلك العراق وأفغانستان. لذا، فالحل الأنسب هو بإستنزاف الموارد العربية وإلهائها عن الهدف الأساسي، فجاءت مسألة “الربيع العربي” وإضاعة البوصلة عن قضية العرب الأولى. فكم من العرب يتذكر اليوم قضية فلسطين؟ ومن يتذكر من هو العدو التاريخي الطامع بالأرض، منذ بدء “الثورات العربية”؟ يكفي تزعم قطر والسعودية لهذه الثورات، ويكفي “هستيريا” جامعة الدول العربية وحقدها الموتور ضد سوريا، لكشف حقيقة هذا “الربيع العربي” المخردق كالمنخل.
لا يكاد المرء يصدق هذه الإستماتة من قبل قطر (ووراءها السعودية) في الكيد لسوريا وشعبها إلى درجة طلب قوات “حفظ سلام عربية ودولية” من مجلس الأمن لتكرار التجربة الليبية المريعة. هذا الطلب الذي رفضته حتى الدول الإستعمارية وأمين عام الأمم المتحدة الذي، على غباوته، وبخ الجامعة العربية على قرارها. لقد ركبت “الجامعة القطرية” أعلى ما في خيلها ولكنها سقطت سياسياً و”فكّت رقبتها”. وإذا عرف السبب، بطل العجب. فمن أجل “الفيفا” الممنوحة لمشيخة قطر، ترخص كل الأشياء. و”للفيفا” أثمان وإلتزامات وتبعات نرى ترجمتها اليوم باندفاعة قطر غير المحدودة ضد سوريا وإلا ماذا يدفع الغرب لمنح دويلة خليجية فرصة العمر بإستضافة بطولة “كأس العالم” لكرة القدم؟
حتى لو كان الإنسان ضد النظام في سوريا، سوف يقف معه اليوم بسبب المؤامرة الواضحة المعالم.. فلا يمكن الوقوف مع المعسكر المتحالف مع قوى الظلام. يكفي الإستماع إلى العرعور وهو يهدد على “اليوتيوب” بفرم “لحم العلويين في سوريا وإطعامه للكلاب”، ثم يعلن في مقطعٍ آخر أن ديننا هو دين التسامح! تصوروا أن سمير جعجع أصبح “نجم” قرطة حنيكر وخطيباً لجمهور السنة في مهرجان “البيال” الذي عقد بذكرى الرئيس رفيق الحريري، حيث أنه أصبح مهتماً بشؤون المسلمين وبمصلحة الشعب السوري الذي نكل وقتل منه ما قتل وأشعل حرباً ضد “الغرباء” وإستمر على نهج معلمه في الذبح على الهوية وإرتكاب المجازر في المسلخ والكرنتينا وحي الغوارنة والنبعة وبرج حمود ومخيم “تل الزعتر” وكنيسة “سيدة النجاة” وقتل الرئيس رشيد كرامي!
يذكرني فريق “الدنيا هيك” في حفل “البيال” الباهت جداً بالفيلم الأميركي “الروؤس المروسة مثل قرن البوظة” (كونهيدز) لأنهم كأنهم من كوكب آخر. فقد غرد الطائر المصطاف، كالعادة، خارج سربه إلى درجة أن جعجع خطف منه الأضواء، وأطلق موقفاً جديداً ذا سقفٍ عالٍ جداً وكلفة أعلى حول حتمية سقوط النظام السوري وتحمله مسؤولية إدخال لبنان في حرب المحاور ضد بلدٍ شقيق، مضيفاً هذا الموقف إلى سلسلة الوعود السابقة الفاشلة التي لم يعد الجمهور الأزرق يصدقها، من نزع سلاح المقاومة إلى إسقاط الحكومة. كلمة سعدو المتلفزة سببت التثاؤب حتى لعمته، التي التقطتها كاميرا قناة “الجديد” المتربصة! والملفت في كل هذه التراجيديا أن “المحكمة الإسرائيلية” تستخدم مثل “إذن الجرّة” يضعونها حيث يشاوؤن والظرف الملائم اليوم هوالعودة إلى إتهام سوريا. لكن نكتة المهرجان بلا منازع كانت كلمة “مجلس بيغماليون” السوري التي ألقاها (وكتبها) فارس سعيد والتي وعدت بإقامة علاقة سيادية مع لبنان بعد تسلمها السلطة لكنها تقحم نفسها اليوم مع الرؤوس الحامية وتستعدي نصف الشعب اللبناني. بإختصار، وزع مهرجان “١٤ آذار” الغنائم سلفاً على نفسه وهنأها بالنصر بينما وصلت الجامعة العربية إلى طريقٍ مسدود وبدأت تباشير الحل في سوريا حتى بإقتناع ضمني من الدول الغربية نفسها رغم الضجيج الكلامي.
Leave a Reply