الجامعة العربية : رقصة الفرخ المذبوح
ولدت الجامعة العربية بعد فكرة سوَّقها وزير خارجية بريطانيا أنتوني إيدن وروَّج لها في خطابه عام 1941 ثم عام 1943 أمام مجلس العموم البريطاني حيث أشار إلى تعاطف الحكومة البريطانية مع رغبة بعض المفكرين العرب لكي تكون لهم مؤسسة ما تجمعهم، فإلتقط مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر الفكرة ودعا رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخوري للبحث فيها ثم تتالت المناقشات بين مندوبي الدول العربية في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي في 12 تموز (يوليو) 1944 ثم وقع التوقيع على ميثاق الجامعة في 22 آذار (مارس) 1945 وعُيّن عبدالرحمن حسن عزّام أوّل أمين عام لجامعة الدول العربية.
وقد كانت الجامعة ولسنين طويلة لا تجتمع ولا تُحرك ساكنا رغم الكوارث والنكبات التي كانت تتوالى على المنطقة، ولإمتصاص الغضب الشعبي ولحفظ ماء الوجه وقع الإتفاق على ان تجتمع الجامعة مرة كل سنة وكانت مع كل اجتماع لا تخرج إلاّ بقرارات هزيلة تطويها الملفات في الأدراج ثم تعُود الجامعة الى سباتها العميق، ثم تطوّر الأمر وأصبحت الجامعة تتحرك أو تُحرّك وفق اجندات خارجية وداخلية مثلما حدث مع العراق ثم ليبيا ومثل ما يحدُث حاليا مع سوريا، وبقدرة قادر اصبحت الجامعة تجتمع خلال أسابيع وتُحدّد المُهل بالأيام بل بالساعات لأعضائها لتنفيذ قرراتها. هل هو النشاط أم ضرب السياط؟
للأسف الشديد الجامعة التي كانت “لا تهش ولا تنش” تغوّلت على أعضائها بعد أن حُوّلت وجهتها وأصبحت “شُخْشيخَة” في أيدي بعض دول الخليج ومن ورائها.
جامعتنا المُوقّرة وبعد أن “تَخَوْلجَتْ”، انخرطت في مشاريع مشبوهة لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة وعبر الإعلام والمال ساهمت في خلق أوضاع سياسية إفتراضية جعلت المُتابع لما يدور في عالمنا يكاد يظن أنّ كل بقَاعه ودُوله وأممه تنعم بالخير والسلام فلا حروب ولا جوعى ولا مرضى ولا استبداد، نعم كل العالم بخير فقط بُؤرة وحيدة هي سوريا تقُضُّ مضاجع أصحاب الضمائر الحية الذين يسعون الى إلحاقها بقافلة الخيّيرين. نعم، لا يمكن لأيّ شخص إلاّ أن يفهم ذلك.. العقبة الأخيرة من أجل أن تسبح الكرة الأرضية في فلك الديمقراطية والحرية والسلام هي إسقاط سوريا لذلك أصبح كل ما يجري فيها الخبز اليومي والمادة الاساسية للجرائد والقنوات التلفزية، أغلب “الميديا” وعلى مدى الاسبوع ليس لها إلاّ الحديث عن الضحايا وكيفية انقاذهم، وأمام كل هذا الفيض الانساني الجيّاش لا يمكن للمرء إلاّ أن يقول “الدنيا بخير”، مادام العرب يحبون لإخوتهم ما يحبونه لأنفسهم، ومادام العالم يسير وفق ضمير إنساني لا فرق فيه بين شعب وآخر من شعوب العالم، هذا ما يمكن ان يظنه الانسان العادي الذي يعيش وسط تضليل وتجييش إعلامي ممنهج.
في ظل هذه الأوضاع المأزومة يجتمع “أصدقاء سوريا” في تونس هذه الجمعة (مع صدور هذا العدد) بحضور حوالي تسعين وزير خارجية بصفة ملاحظين، والذين سيكونون مجرد ديكور للإجتماع لأنّه وحسب ما تسرّب فإنّ ورقة العمل التي ناقشتها قطر، فرنسا، السعودية ودول غربية أخرى خلال الأسبوع الماضي في فرنسا سيقع إعتمادها كوثيقة نهائية ولن تكون النقاشات إلاّ عملية تعمية وذر الرماد في العيون، وحسب الأجندة المُعلنة فإنّ النقاش سيدور حول نقاط ثلاث:
– أولا، البحث في آليات إيصال معونات إلى المدنيين.
– ثانيا، العمل على توحيد كل المعارضات الداخلية والخارجية حول أهداف مشتركة.
– ثالثا، مزيد دعم للمبادرة العربية.
هذا المُعلن، أمّا ما تسرّب ممّا خفي من الوثيقة التي وقع إعدادها في فرنسا فيمكن عرضه بالنقاط التالية
– العمل على إيصال المعونات الى المعارضة المسلحة كذلك.
– إيجاد آلية قارّة لدعم أيّ تحرك ضد الحكومة السورية عبر إنشاء صندوق دولي من أجل ذلك
– التحرك في إتّجاه بناء قوّة عربية ودولية لحفظ السلام في سوريا مهمتها حماية الممرات الانسانية المُزمع إنشائها داخل الأراضي السورية.
وحول هذه النقطة تدفع بريطانيا نحو ان تكون القوة عربية أو إسلامية حتى لا تُثير الحميّة العربية والإسلامية عند مشاركة قوى غربية في حرب مُمكنة ضد سوريا كما تدعو الوثيقة الى دراسة الإجراءات الممكنة لتنفيذ ذلك في نطاق الأمم المتحدة، كما سيعمل “الأصدقاء” على توحيد المعارضة داخل إطار وحيد هو المجلس الوطني السوري وبأيّ ثمن حتى لو تطلّب الأمر إكراههم على ذلك، وهناك سعي لدى الدول الراعية للإجتماع لإقتلاع إعتراف من المشاركين بالمجلس الوطني السوري ممثلا شرعيا ووحيدا للسوريين. وقد واجهت الترتيبات الى هذا الاجتماع صعوبات تمثلت في رغبة المُضيف التونسي في حضور الجانب الروسي والصيني إلاّ أن ذلك لن يحصل، فالصين لن تحضر بسبب عدم وجود الطرف الحكومي، أمّا روسيا فترى أن لا جدوى من حضور شكلي خاصة بعد أن تم إعداد الوثيقة النهائية التي سيتبناها الإجتماع، كما أّنها ترى أنّ عدم حضور الطرف الرسمي الحكومي يعني ان الإجتماع لن يساهم في دفع الحوار بل سيمثل إنحيازاً لطرف المعارضة في حين كان على رعاة الإجتماع ان يكونوا على الحياد من الطرفين.
بعض العرب وبعض الغرب في صراع مع الوقت، فالدول الخليجية التي تأبّطت الجامعة العربية وتندفع في كل الاتجاهات في رقصة أخيرة “رقصة الفرخ المذبوح”، تريد أن تحقّق شيئا على الارض قبل ان يُعلن رسميا عن وفاة الجامعة العربية، فالمؤشرات توحي ببروز منظمات إقليمية بديلة، مثل سعي ساسة شمال فريقيا العربي لتفعيل “اتحاد المغرب العربي”، إضافة إلى سعي الخليجيين الى تحويل “مجلس التعاون” الى “اتحاد خليجي”، أما بعض الغرب فيحاول، أولا، أن يجد له موضع قدم داخل سوريا قبل أن تقضي الدولة على المجموعات المسلحة، فلا يبقى على الارض ما يُمكن ان يرتكز عليه “أصدقاء سوريا” لاستمرار استنزافها وخلخلتها أمنياً، تنفيذاً للهدف الأساسي، المُضمر والمُعلن، وهو إسقاط الدولة السورية، حتى يتمكن الغربيون من تثبيت أقدامهم في بلاد الشام قبل عودة الدور الروسي بقوة على مسرح الاحداث، ضمن الإستراتيجيا التي يمثّلها ويدعو اليها فلاديمير بوتين والذي يبدو في طريق مفتوح للفوز بالإنتخابات المنتظرة في فدرالية روسيا هذا الربيع.
إن إجتماع “أصدقاء سوريا” بتونس هو محاولة لوعد المعارضة السورية بالنصرة بكل الوسائل والوعيد المُبطّن للنظام بأنّ الحرب عليه ستتواصل حتى وإن اقتضى الأمر تجاوز القانون الدولي والاممي.
حقيقة انها سُخرية الأقدار فالجامعة التي بُنيت لتُوحّد العرب وحمايتهم تحوّلت الى عامل فرقة وتدمير.
فما حفظوا العهد الذي كان بيننا
ولا حين همُّوا بالقطيعة أجملوا
العرب وسوريا: اللّي بيته من زجاج..
هناك ظاهرة مُلفتة للنظر بل هي مُحيّرة وهي أنّ ما يجري في المنطقة العربية هو شيء مُجانب للمنطق وسير حركة التاريخ والشعوب، فالعرب الثائرون ضدّ الأنظمة السياسية المستبدة السائدة بالمنطقة هذه الأيام يقُودهم بعض من دول الإستعمار القديم والمتجدد. وإن كان هذا الأمر غير مقبول، فهو مفهوم ضمن سعي أغلب القوى المتنفذة في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بالمنطقة الأكثر ثروات وغنى بالعالم.
أمّا الأمر المُفاجيء والغريب هو قيادة الأنظمة العربية الأكثر رجعية في المنطقة للقُوى الناهضة من أجل التغيير في الدول العربية الأخرى. فالدول الأكثر دكتاتورية وشمولية وأتقراطية تقُود مسيرة التحرير والتنوير، أليس هذا أمرا مثيرا للإسفهام والتساؤل؟!
قد ينتفي التساؤُل والإستغراب في حالة واحدة، وهي أنّ تقوم تلك الدول العشائرية بتغير نظمها وتبديل جلدها وعظمها وتسمح بأن تُحَلَ حكوماتها المُزمنة وتدعو شعوبها الى التحكّم في ثروات البلاد وقيام الإنتخابات وبناء مجالس ومؤسسات مدنية لتسيير شؤون بلدانها.
فقط في هذه الحالة تنتفي حُرقة السؤال، ولكن للأسف الشديد أنّ تلك الدول الدكتاتورية ذات الأنظمة العائلية لم تفعل أيّ شيء من ذلك، بل الأدهى والأنكى والأمَرّ أنّها قمعت حركات المطالبة بالتغيير في بلدانها ونكّلت بالثوار وأفتت بكفرهم بسبب خروجهم على “أولي الأمر”. نعم، لقد أصرّت على الحفاظ وعلى تأبيد الأوضاع المُهترئة والكارثية لشعوبها ومع ذلك تمادت في ممارسة سياسة “عَنترْ شايلْ سيفو” تجاه بقية دول المنطقة التي هي في الحقيقة أكثر من دول الخليج تفتحاً وتنويراً وحداثة. نضرب مثلا على هذا ما يجري الآن ضد سوريا، البلد الأعمق حضارة في المنطقة والذي يتوفر فيه برلمانا ومجالس محلية ومؤسسات مدنية والتي رغم عدم مثاليتها يُمكن إصلاحها وتحديثها، البلد الذي يتوفر على بنية تحتية هي الأفضل بين أغلب البلدان العربية والذي تنتشر فيه المدارس والجامعات والمستشفيات المجانية والبلد الأقل مديونية في البلاد العربية والأقل إعتمادا في غذائه على الخارج، البلد الذي تطوّرت فيه الصناعة والزراعة والفنون، البلد الذي تشارك فيه المراة في مسيرة البناء والذي تنتشر كوادره العلمية على طول بلا الخليج وعرضها لتساهم في التنوير والتعليم والصحة في تلك البلدان. هذا البلد يقود معارضته دولا خليجية لم تعرف ديمقراطية ولا رأت برلمانا ولو في أحلامها، فهل من الممكن أنّ فاقد الشيء يُعطيه؟ هل من الممكن أن البلدان التي تتوفر على أموال قارون والتي لا تُوجد فيها تنمية بشرية حقيقية ولا إنتشار واسع للتعليم ولا أبسط حقوق المرأة، لم تبنِ مصانع لتوفير الغذاء ولا قامت بإستصلاح متواصل للأراضي البُور والجرداء لتُوسّع نطاق الزراعة وتحقق ولو إكتفاء غذائي نسبي؟ هذه الدول لم تتحرك جدياً لتبحث عن بدائل حقيقية لتوفير الماء مستقبلا عبر الآبار الإرتوازية العميقة والتمكن من تقنية الأمطار الإصطناعية، لم تُطور إستراتيجيات مستقبلية بوضع برامج لمجابهة مصير ومستقبل تلك الدول بعد 25 سنة من الآن، وهو العمر الإفتراضي لإستمرار تدفق النفط الذي يُعتبر عصب الحياة والمورد الأساسي للدخل في تلك الدول والذي يذهب ريعه الى البنوك الغربية ويتنافس الأمراء في إطلاق الفضائيات التي تبث على مدار اليوم سباقات للجمال أو فيديو كليبات كما يستمر إهدار المال في إستيراد تكنوليوجيات واختراعات كان من المفروض ان تستفزهم لبناء مراكز بحوث لنخبهم لإمتلاك ناصية التكنولوجيا دون البقاء رهينة لهذه الجهة أو تلك.
دولٌ تبذّر فيها الأموال في بناء القصور في الجزر وفي البحر وفي بناء ناطحات السحاب والمشاريع التي ليس لها مردودية على حياة عامة الناس الذين لن يجديهم نفعا ناطحات السحاب عندما ينطحهم الجُوع.
تستفز الجُرأة التي تصل حدّ الوقاحة أغلب المراقبين للمشهد السوري حيث يقف طرف لا يمتلك أحزابا ولا دستورا ليقول للآخر الذي يملكها: تنحّى حتى نبني في بلدك برلمانا منتخبا! أو يقف طرفا لا يسمح في بلاده بالتظاهر حتى السلمي منه ليُجرّم آخر لأنه تصدّى لتحرك مسلّح، أو يقف طرفا يقمع التظاهر بكل الوسائل في بلده ليقول لآخر : لماذا فعلت ذلك في بلدك؟!
فعلا يعجز الإنسان على التفسير فإمّا انّ هؤلاء لا يعلمون ما يجري في بلدانهم أو إنهم يعتقدون أنّهم فوق المُسائلة لأنّهم مقدّسُون أو أنهم يتصرفون كذلك لأنهم مجبورون على ذلك. وقد يصدق في هذه الفئة قول الشاعر:
في تعب من يجحد الشمس ضوئها
ويجهد أن يأتي له بمغيب
مستقبل المنطقة العربية: دول على مفترق الطرق
من خلال السناريوهات المُمكنة وفي خضم التحولات التي تشهدها المنطقة إقليميا وكنتيجة للتحولات والتأثيرات الخارجية كذلك يبدو المستقبل على كف عفريت، فكيف يبرز ذلك؟
عربياً، وكما أسلفت الذكر، قد تشهد المنطقة حلَّ الجامعة العربية أو حدوث إنسحابات منها، ممّا قد يُولد بداية قيام تكتلات جديدة، مثل الإتحاد المغاربي والإتحاد الخليجي. وهذا الأخير قد يشهد داخله ميلاد كونفدرالية سعودية -بحرينية وقد تبحث دول أخرى، مثل مصر، الإندماج ضمن المغرب العربي أو قد تُؤسّس مجموعة أخرى مع دول بلاد الشام والعراق واليمن، اليمن الذي هو جزء من الخليج جغرافيا لكن أهل البترول يستثونه خوفا من ان يتحول عدد سكانه الى عبء عليهم. ورغم ان هذا خطأ فادح إستراتيجياً لأنّ اليمنيين أيادي عاملة ماهرة بإمكانها أن تحُلّ مشاكل إستقدام العمالة من الهند وشرق آسيا مع سهولة إندماج اليمن في المجموعة الخليجية، ورغم ذلك لا يزال ضمّه خارج حساباتهم.
تبدو المنطقة الخليجية مفتوحة على كل الإحتمالات وقد تشهد تحوّلات دراماتيكية تُؤدّي إلى تفكك المنظومة الخليجية نفسها فتنقسم بعض الدول ضمن توزيع جديد للأدوار، وقد تبتلع دولٌ دولاً أخرى بأكملها أو أجزاء من أخرى. الأيام حبلى وقد تأتي بما هو أعظم.
قد نشهد كذلك ميلاد تكتلات أخرى بين سوريا ولبنان والعراق وربّما إيران، كما لا يستبعد ان تتخلخل وتتغيّر بعض العلاقات التاريخية بالمنطقة، حيث لا يستبعد أن تدير مصر ظهرها لدول الخليج الذين يقف البعض منهم وراء القلاقل الحالية في مصر والتي تدخل ضمن إستراتيجيا خارجية لإستهداف الجيش المصري واستقرار مصر.
المنطقة تعيش مخاض عسير، وسيحدد مآل ومصير الأزمة في سوريا مستقبلها ومسار تحالفاتها الاقليمية والدولية، خاصة وأن الدب الروسي الناهض قادم وبقوة ليكون له دور مهم في معادلة المنطقة وقد تجلى ذلك في السياسة التي اتخذتها روسيا حيال ما يحدث في المنطقة وعدم مساومتها وثبات موقفها خاصة مما يحدث في سوريا، وقد كانت روسيا قادرة على أن تكون طرفا في اقتسام الكعكة، إلا أن السياسة الجديدة لروسيا تنبئ بعودة محتملة للحرب الباردة خاصة بعد الموقف الذي أعرب عنه الرئيس ديميتري مدفيديف من “الدرع الصاروخي”، والذي يبدو أن ورائه رجل روسيا القوي والقادم فلاديمير بوتين. روسيا لم تعد تتسم بالانفعالية التي ميّزت سياسة حكوماتها بعد البروسترويكا وانحلال الاتحاد السوفياتي، بل لوحظ عودة القراءة الإسترتيجية لما يجري في العالم وفي المنطقة التي تعتبر أهم مناطق العالم جيوسياسياً.
نتائج الأزمة السورية ستحدث عملية فرز القوى في المنطقة، كما أن للدور الايراني والتركي وعودة الدب الروسي مؤثرات عميقة ستحدد مسار ومستقبل المنطقة العربية والشرق أوسطية، كما ستحدد عملية التوازنات العالمية على مدى العشرية القادمة ومابعدها.
Leave a Reply