بين من يقدسها ومن يصطنعها
يعتبر الزواج مشروع العمر للشباب من الجنسين، ويظل نقطة الإرتكاز الأساسية في حياتهم على الرغم من جميع المشاريع الحياتية والمهنية الأخرى. والزواج، بدوره، تحكمه تقاليد وأعراف إجتماعية، قيمية وأخلاقية ومالية تؤثر بشكل بارز على طبيعة الزيجات ومستقبلها. وكون الزواج موضوعا يتعدى مسألة التناسل والتكاثر ويمتد الى حالات من الإستقرار النفسي والعاطفي، وحتى الفكري، على المستويين الفردي والاجتماعي، بات الزواج تحدياً مفصلياً وشائكاً يواجهه أي رجل أو إمرأة. وما حالات الطلاق أو الإنفصال إلا تعبيرات عن تعقيدات هذا الموضوع، وظواهر تؤكد مدى حساسية هذه الخطوة وأهميتها في آن.
تتعدد العادات والأعراف في طرائق إختيار الشريك الزوجي. فبعض الشباب يسلكون طريق “الزيجات المرتبة” التي تلعب القرابة والعلاقات الإجتماعية دورا بارزا فيها. ومع أن هذا الزواج ينتمي نظريا الى مرحلة سابقة، الا أن ذلك لم يدفعه الى الانقراض حتى في المجتمعات المتقدمة. وبعض الشباب يرغب في أن يكون الزواج تتويجاً لحالة عاطفية مبنية على الحب والتفاهم.
وبين الحب كحالة عاطفية مشتهاة، وبين الزواج المكرس إجتماعيا، تنشأ تداخلات وحالات تزيد من تعقيدات العلاقة بين الحب والزواج. فإما هي مقبولة أو مفهومة، وإما هي منبوذة أو مرجومة.
يُطلب من الشاب أن يتمتع بمزايا تؤهله للزواج مثل القدرة المالية والأهلية الإجتماعية والمستوى العلمي أو المهني (تزداد أو تنقص هذه المتطلبات بين حالة وأخرى)، تبدو الفتاة واقعة بالدرجة الأولى تحت متطلبات السمعة الحسنة أو الشرف العائلي. وتبدو “العذرية” في أغلب الحالات هي العنصر الحاسم في هذه المسألة.
فمع انتقالنا، نحن العرب، للعيش في مجتمع غربي خلف مفهوم “العذرية” وراء ظهره منذ عقود كثيرة، تجد الأجيال العربية الشابة نفسها ممزقةً بين ثقافتين متعارضتين الى حد التناقض، على الأقل في هذا المضمار.
ولا ينشأ هذا التعقيد عن فهم هذه الظاهرة نتيجة تناقض الثقافتين فحسب بل أيضاً نتيجة إنقسام الشباب العرب الى مجموعتين، واحدة تتساهل في الموضوع وأخرى ترى فيه معيارا للشرف، وشرطاً بديهياً للقبول بالشريكة.
الشرف الإصطناعي
إستطاع الطب الجراحي أن يجد حلاً مريحاً لمجتمعات مثل مجتمعاتنا ترى في عذرية الفتاة طهارتها وشرفها. فغدت ظاهرة “ترميم غشاء البكارة” من أكثر التعبيرات عن عمق هذا المأزق الأخلاقي والإجتماعي. ومن المفارقات أن ينتقل هذا “الحل” مع المجتمعات المهاجرة الى مجتمعات أكثر إنفتاحا مثل المجتمع الأميركي. وعادة يتم إجراء “الترميم” في عيادات خاصة عند أطباء أو طبيبات عرب أميركيين.
وإن لجوء فتيات عربيات أميركيات من كافة الأديان والمذاهب لهو موضوع يستحق المناقشة والتأمل على عدة مستويات. فهو من جهة يشير الى العنف الإجتماعي والعسف الأخلاقي الذي يصبغ علاقاتنا وأفهامنا كبشر مجبولين على الخطأ. ومن جهة أخرى يكشف في أحد مستوياته عن النفاق والخسة الشخصية للتحايل على بعض مساوئنا، إذ من المعروف والبديهي أن كون فتاة عذراء لا يعني أبداً أنها خارج العلاقات العاطفية، كما لا يعني أيضا أنها خارج التجارب الجنسية. ومع أن هذا الأمر مسألة يعرفها الجميع، إلا أن الكل (عن طيب نية أو تغافل أو تغابٍ) يرتضي الإحتكام إليها وعدّها المعيار: معيار الشرف معيار لنظافة المرأة من دنس “الوقوع” في الحب أو الإنجرار الى مهاوي الرذيلة.
ومن اللافت تلك القسوة التي يتم التعامل بها مع هذا الموضوع من قبل شبان تفترض رجولتهم أن لا يكونوا “عذارى”، بل أكثر من ذلك أن يكونوا متعددي العلاقات العاطفية والجنسية التي، ويا للمفارقة، يباركها المجتمع سرا أو علانية بما فيه مجتمع “الفتيات”!! لكن الأزمة العميقة تبقى في كون هذا الموضوع غير قابل للحل بغض النظر عن الأسباب والدوافع التي جعلت فتاة ما تفقد عذريتها.
“كل محجوب مرغوب”
تتحدث الى الجيل الجديد من الفتيات في الجالية العربية وتسألهن عن رأيهم بقدسية العذرية ومفهوم شرف المرأة في المجتمع الشرقي فيكون الجواب، في أغلب الأحيان، مقارنات بين المرأة في المجتمع الغربي وفي مجتمعاتنا. فتقول هناء، 19 عاماً، “إذا ارتبط الشرف بغشاء البكارة فهذا يجعل الكثيرات من الفتيات شريفات في حين أنهن يعشن علاقات جنسية متعددة ولكن ليست كاملة. وبالتالي تبنى العلاقات الزوجية على الكذب وذلك من أجل حماية العرف الإجتماعي”. وتضيف: “أعتبر أن مسألة “قدسية” العذرية وإرتباطها بالشرف مسألة نسبية ومتخلفة، ورسم التهويل الدائم حولها يدفع بالفتيات الى عيش التجارب المتعددة فقط لأن “كل محجوب مرغوب”. فقد تجد فتاة عربية عذراء قد عاشت علاقات تعدت أصابع اليدين وهي في سن لم يتخط العشرين بينما هنالك نساء أميركيات قد عشن علاقتين وهن في سن الثلاثين”.
من ناحيتها تشير سهى، 21 عاماً، الى صديقتها الأميركية التي حملت الى أهلها نبأ حملها الأسبوع الماضي، وتقول: “رحب أهلها بحملها بالرغم من أنها ليست متزوجة. بينما صديقة أخرى لي، أيضا أميركية وعمرها 21 سنة أرسلت بها أمها الى عيادة طبيب نفسي لأنها لم تقم أية علاقات جنسية حتى سنها هذا”. وتضيف: “أنا لست مع أو ضد مفهوم العذرية ولكنني أنصاع له في كل الأحوال لأنه ضمان لي في الزواج، وذلك لا يعني أنني أؤمن بالفكرة ولكنني أخاف من النتائج التي قد تترتب في حال تجرأت وكسرت هذا القيد”.
الطهارة.. خط أحمر
لكن الشاب علي، ورغم أنه مولود في الولايات المتحدة ويختلط بالأميركيين على نحو كبير، الا أنه يرى أن “العذرية هي خط أحمر لا يجب تجاوزه مهما كانت الظروف وحفاظ الفتاة على عذريتها هو دليل دامغ على عفتها وطهارتها وشرفها”. ويضيف: “أن الأميركيين لا يتساهلون في هذا الموضوع كما نظن نحن، كما أن الكثير من العائلات الأميركية هي عائلات ملتزمة وتولي هذه المسألة أهمية كبيرة. ولكن المشكلة أننا نحكم على المجتمع الأميركي وقيمه وأخلاقياته من خلال الأفلام والمسلسلات وليس من خلال معاشرتهم والتواصل الحقيقي معهم”.
ونوه علي الى أن مفهوم “العهر”، وكذلك “الدعارة” هي مفاهيم وظواهر غير مقبولة في المجتمع الأميركي كما أنها تؤثر على سمعة الأشخاص والعائلات في محيطها الاجتماعي.
سمعة البنت مثل الزجاج
.. إذا إنكسر لا يُصلح!
وفي سياق آخر، تتخطى “قدسية العذرية” ما هو حلال في الأحكام الشرعية، اذ تطغى الأعراف والتقاليد على ما هو شرعي في الحكم الديني بحيث أن الفتاة “المكتوب كتابها” يحرم عليها فقدان عذريتها عرفيا وإجتماعيا في حين أنها في حكم الشرع مسألة محللة وشرعية. وهذا النوع من “الظلم” يدفع بعض الفتيات الى حالات من التمرد والخروج عن سلطة الجماعة (الفاسدة أصلاً) والثورة عليها. ولكن تثبت التجارب أن “أثمان” إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، هي أثمان باهظة ومكلفة، لأن “المجتمع” هو في النهاية الحظيرة التي يجب على الجميع الرجوع إليها..
يعتبر محمد، 29 عاما، أن عذرية الفتاة وإرتباطها بالشرف غايتها الأساسية الحفاظ على أعراض الفتيات وحمايتهن من الإنزلاق في تعددية العلاقات التي تنشئ تشتتاً نفسياً لهن، كما أنها تؤدي الى ضياع النسل. ويقول: “لا شك أن المجتمع يبالغ في حصار المرأة وتقيمها حسب غشاء قد تفقده بالحلال. ففي إحدى المرات كنت بين مجموعة أصدقاء وكانت صديقتي تتحدث عن حادثة عايشتها بإنزعاج وتأفف. فقد تزوج أحد الرجال، المعروف بعلاقاته المتعددة، من فتاة كانت مخطوبة (مكتوب كتابها أي ما يوازي بحكم الشرع المتزوجة) وإكتشف بعد الزواج أنها ليست عذراء، فطلقها. ولم تسلم الفتاة من ألسنة الناس ومن إحتقار أقربائها لها”. ويضيف محمد: “إنزعجت جدا من صديقتي وأخبرتها بامتعاض، اذا كانت هذه الفتاة قد خسرت عذريتها بالحلال وهذا الرجل قد أقام العشرات من العلاقات بالزنى، كيف يقوم المجتمع على محاسبتها على فعلٍ حلال وبالمقابل يتغاضى عن هذا الرجل الزاني؟ هذا حتما ظلم..”.
سرك أسيرك!
كانت ندى في العشرين من العمر عندما فقدت عذريتها مع خطيبها (مكتوب كتابها)، وتقول: “كنت على علاقة حب جارفة بخطيبي، ولم تكن عواقب فقدان عذريتي حينها في الحسبان، أو ربما كانت ولكنني لم أكترث بالنتائج التي قد تترتب عن هكذا فعل، كون المسألة كانت بالحلال”. لم تستمر علاقة ندى بخطيبها، فما لبث أن حدث الإنفصال وعرض عليها خطيبها السابق أن تلجأ الى عملية “ترميم غشاء البكارة” لإعادة عذريتها، إلا أنها رفضت. فإعتبرت أن ما خسرته مع خطيبها لم يكن عذريتها الجسدية وإنما خسرت عذرية الحب وقدسيته.
ندى لم تخبر أحدا عن فقدانها لعذريتها بالرغم من أن أمها التي عايشت مشاكلها مع خطيبها، قالت لها في إحدى المناسبات، “اذا كان سبب صراعك النفسي وعدم مقدرتك على تخطي هذا الرجل هو فقدانك لعذريتك، “فرأسمالها عملية ترميم” ويعود كل شيء الى سابق عهده”. تقول ندى: “بالرغم من قناعاتي المتجذرة حول أن هنالك شعرة تفصل بين الإنفتاح والفلتان، لم أفهم يوما سبب التقديس لعذرية المرأة في مجتمعاتنا الشرقية ولطالما وجدت في هذا المفهوم إجحافا وظلما لها، كما وإعتبرت أن مفهوم الشرف والعرض مجرد بدعة لتقوية مكانة الرجل في مجتمعنا الذكوري”.
وبعد مرور سنوات على إنفصال ندى وبعد خوضها لعدة تجارب عاطفية، تجلس بينها وبين نفسها وتراجع حساباتها وتقول: “لقد تطلب الأمر العديد من العلاقات والتجارب والخيبات كي أكتشف من أين جاء مفهوم “قدسية العذرية” في مجتمعاتنا العربية. الآن فهمت لماذا يسعى آباؤنا وأمهاتنا ومحيطنا الإجتماعي للحفاظ على شرف العائلة الذي يتمثل جزء كبير منه بعذرية بناته”. وتضيف: “في المسألة مبدأ عميق جدا مفاده الحفاظ على قدسية الحب وقدسية العلاقات الإنسانية. فلا شك أن المرأة التي تعيش تجارب عاطفية وجنسية متعددة تقع في فخ المقارنة وتقع فريسة الصراع النفسي وتصبح أسيرة رغباتها الجنسية تماما كالمثل القائل “أعزب دهر ولا أرمل شهر”. ولأن المرأة عند إكتشافها للمتعة الجنسية يصبح من الصعب كبح هذه المشاعر الا في حالات إستثنائية، وحتى لو استطاعت كبت مشاعرها، فإنها في كثير من الأحيان، وبإسم الحب، تبرر لنفسها عيش علاقة جنسية”.
تعيش ندى حالة من الندم وتأنيب الضمير وتعتبر أن المجتمع لم يظلمها فهي من ظلمت نفسها بخياراتها، وتقول: “أنا اليوم في سن مناسب للزواج إلا أنني أعيش معاناة وصراعا داخلياً. فماذا أقول لهذا الرجل الذي يتقدم لطلب يدي؟ هل أكذب عليه وألجأ الى عملية “ترميم لغشاء البكارة”، كما فعلت وتفعل الكثيرات من النساء اللواتي أعرفهن، أم أخبره عن الحقيقة؟ ومن هو هذا الرجل الذي سوف يرضى على نفسه أن تكون زوجته غير عذراء؟ وكيف أكذب عن حياتي الخاصة للرجل الذي سيصبح يوما ما زوجي؟”. تعلق ندى بحسرة: “أنا حتما أعيش صراعا نفسيا عميقا والمشكلة أنه لا يمكنني أن أستشير أحدا بهذا الموضوع. وفي النهاية، كل إنسان يدفع ثمن أخطائه وهفواته وقراراته”.
“إحسبي حساب الرجعة”
هنالك الكثير من الفتيات ممن يقررن أن يحافظن على عذريتهن حتى الزواج، وهنالك الكثيرات ممن قررن أن يكسروا المحظور (إن كان سهوا أو عن سابق إصرار)، وبالتالي إتخذن قرار مواجهة مجتمع كامل ولكن ليس بإجهار الحقيقة بل بعيش حياتين منفصلتين ومتناقضتين. وهنا يصح الحديث السائد “واذا أُبليتم بالمعاصي فاستتروا”، ولكن السترة هنا تكون بعيش حياة مبنية على الكذب خوفا من المجتمع الذي سيحكم عليهن بالنبذ والإحتقار..
خلاصة
التطرق إلى هذا الموضوع الحساس ليس من أجل خرق المحظورات و”التابوهات” الإجتماعية بقدر ما هو محاولة لفهم أحد أوجه التناقضات التي يواجهها الشباب العربي في المجتمع الغربي والتي تدفعهم للعيش في دوامة مستمرة من الكذب والخداع.
الكثيرون يربطون مفهوم الإنفتاح بكسر القيم والعادات والأعراف الإجتماعية وبصورة لاواعية، فيأتي “تمردهم” كرد فعل على الكبت الذي قد ينتج من كثرة الممنوعات والمحظورات. ولاشك أنه هناك بعض الأعراف البالية والمختلفة والتي لا تتناسب مع عصرنا وتطورنا الحضاري ولكن في المقابل هناك أعراف تمثل هويتنا وتميزنا عن بقية المجتمعات وتؤسس لبناء حياة إجتماعية وأسرية ونفسية سليمة، فقبل الإقدام على فعل الممنوع أو العيب أو الحرام، يجدر التفكير مليا بأسباب تجذر هكذا أعراف، والعذرية منها، في مجتمعاتنا. لأن العيش ضمن المجتمع يعني ضمنا قبول الإحتكام لمواقف وآراء الآخرين والإعتراف بتأثيرها علينا، شئنا أم أبينا. وهذا يعني أيضا أننا جزء ممن يطلقون آراءهم على الآخرين، ويقيمون مواقفهم وأساليب حياتهم وطرائق عيشهم.
Leave a Reply