“عركت” عيناي جيداً ظناً مني أن غشاوة غطت عليهما، مثل “الغشاوة” اللئيمة على عينيّ سيء الذكر وليد جنبلاط، بلا قياس وتشبيه، عندما شاهدت وقرأت خبر تظاهرة طلابية لحزبي “الكتائب” و”الأحرار” إحتجاجاً على كتاب “التاريخ” الذي تدرسه لجنة ألفها حسن منيمنة، وزير التربية السابق في حكومة سعد الحريري، بحجة أن المشروع المعد لمادة التاريخ لا يف “ثورة ربيع فيلتمان” وجوقة “14 عبيد زغار” حقهما من الإعتبار وتثقيف الجيل الجديد حول الإنجازات الباهرة التي أتحفا بها الشعب اللبناني.
سر دهشتي ليس لأن اليمين الرجعي كما سماه جنبلاط، لحظة التجلّي وزوال الغشاوة طبعاً، عاجز بنيوياً عن التغيير الإيجابي ناهيك عن المطالبة به، بل لأن هاذين الحزبين كانا أكثر المستفيدين من طغيان النظرية الشوفينية العنصرية للكيان الجهيض الذي ولد بلا تاريخ حقيقي واضح. إنها المعركة الخطأ في الوقت الخطأ، ومعركة دخانية لذر الرماد في العيون للتغطية على عجز هذه الجماعة وإفلاسها بعد تبيان حقيقة “الرمد الربيعي” المصادر إسرائيلياً وسلفياً مع فشلهما الذريع في لبنان المقاوم، وبعد تخبط المؤامرة على سوريا. السبب الحقيقي لتحرك “الكتائب” و”الأحرار” هو تخصيص مساحة للمقاومة في كتاب تاريخ لبنان الجديد. ذلك أنه لم يكف هؤلاء تشويه تاريخ لبنان عبر الأزمنة والذي كان مقتصراً على سرد ملاحم “قرطة الفينيقيين” الذين كانوا دائمي السفر والتجارة وعلموا العالم الأبجدية حتى نسبوا اليهم إكتشاف أميركا، من أجل أن تبرر لاحقاً “الجبهة اللبنانية” خلال الحرب الأهلية، نظرية أحفاد فينيقيا في التطلع دائماً للخارج والإستقواء به على أبناء بلدهم. ولم تكذب هذه الجبهة، التي كان عمادها كميل نمر شمعون وبيار الجميل الجد، خبراً فتعاملت مع إسرائيل العدو التاريخي، ثم تحالفت مع سوريا لإنقاذها من الدمار قبل أن تنقلب عليها خلال صعود نجم بشير الجميل الصاروخي.
كم مجدوا لنا في كتب تاريخ الكيان بالأمير فخرالدين المعني “الكبير” وحكمه وتكوينه للإمارة اللبنانية، الأمّارة (بالشد على الميم) بالسوء. يقدسون فخرالدين لأنه أول خائن تعامل مع الخارج عبر علاقته مع إمارة توسكانا، والتي كانت السبب في هلاكه. أما الشخص المحظي الآخر فهو قريبه الأمير بشير الشهابي الذي يتغنون بعدله وبالأمان في عهده، مع أنه كان طاغيةً مجرماً يقتل الناس لأتفه الأسباب ورفض أن ينصر رئيسه والي عكا ضد جيش نابليون الغازي بعد أن مالت الكفة للجيش الأجنبي. وهذا يذكر بموقف “الجبهة اللبنانية” أيضاً التي كانت تريد الوقوف على الحياد بين العرب واسرائيل بعد أن جعلت من لبنان دولة ذات “وجه عربي” فقط ولولا العيب والحياء لجعلته بلداً يلبس على وجهه “بربارة عربية”!
هم لا يريدون إبقاء تاريخ لبنان القديم في العتمة فقط، بل يريدون أن يحوروا تاريخ لبنان المعاصر أيضاً حسب الطلب. درسونا في تاريخ لبنان أن شبه الكيان نال “استقلاله” بفضل جهود حزبي “الكتائب” و”النجادة”، لذا فالجميل فقط لهما وليتقاسما الحكم معاً من دون بقية “الشركاء” في الوطن. تعجبني كلمة “الشركاء” وكأن “شبه الوطن” شركة غير مساهمة أو جمعية خيرية لا تتوخى المواطنة الحقيقية. ثم “طلع” حزب النجادة “من المولد بلا حمص” وإقتصرت مقدرات السلطة على “الكتائب” والطائفة المالكة فيما بعد. لكن لم تعلمنا كتب تاريخ الكيان عن مقاومة أدهم خنجر وصادق حمزة والنهضة العلمية في الجنوب والبقاع. لم يرووا لنا أن “الكتائب” كانت الأداة الطيعة بيد فرنسا، أولاً، ثم السلطة “الإستقلالية” الجائرة، ثانياً، للتصدي للنهضة القومية بزعامة أنطون سعادة فدبرت له مكيدة أدت إلى اغتياله ظلماً وجوراً في عام 1949. ولم يدرّسونا أن “الكتائب”، بإعتراف جوزيف أبو خليل، تلقت مساعداتٍ مبكرة من إسرئيل وتعاونت تعاوناً وثيقاً معها لأن تاريخ لبنان الذي تعلمناه ونحن صغاراً لم يصف اسرائيل بـ”العدو” ولو مرةً واحدة.
هل يقبل الطلاب تضمين المؤرخ الإسرائيلي بني مورس في المنهج المدرسي؟ مورس هذا نشر مقالة في مجلة “دراسات في الصهيونية” وثق فيها للعلاقة بين حزب “الكتائب” وبين إسرائيل بين أعوام 1948 و1951 وكيف كانت الدولة الصهيونية تمد هذا الحزب بالأموال لدعم حملاته الانتخابية، وكيف كان الياس ربابي صلة الوصل مع الصهاينة آنذاك. كما أوضح مورس أن القيادة الكتائبية الطائفية كانت تنظر إلى التحالف مع إسرائيل كتحالف استراتيجي بين عقيدتين متشابهتين في الصفات الفاشية وفي احتقار “العنصر” العربي. وإن لم تصرح القيادة اليمينية عن مكنوناتها إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما ظنت انه سيتسنى لها السيطرة على مقدرات البلد بالتحالف الذيلي مع إسرائيل، وهو ما اتضح جلياً في عبارة “المحاكاة الحضارية” بين لبنان وإسرائيل التي قالها شارل مالك في أول مهرجان كتائبي بعد الاجتياح. وهل أن طلاب “الكتائب” و”الأحرار” مستعدون لإعادة صيغة التاريخ لكي يتضمن مجازر “الكتائب” ضد نمور “الأحرار” خصوصاً في محلة الصفرا الكسروانية في السابع من تموز 1980 حيث تمت تصفية “النمور” في برك السباحة في “المارينا” وفي مغاطس الحمامات؟ من يذكر يومها هروب داني شمعون وزعيم مليشيا النمور الملقب بـ”الحنش”، إلى بيروت الغربية؟ “الحنش” هذا له “فضائل” في المساهمة في ذبح المدنيين العزل في بداية الحرب، لكن مع هذا لم يجد ملاذاً إلا في المناطق التي كان يفتك بأهلها، فهل يتذكر كل ذلك أهل “الطريق الجديدة” اليوم، المعجبون بسحر سمير جعجع الفتان؟ وهل سيتضمن الكتاب المدرسي للتاريخ مجازر “الكتائب” و”الأحرار” (قبل تصفيتهم) و”القوات اللبنانية” فيما بعد والتي كانا العمود الفقري لها، في عين الرمانة (البوسطة) والمسلخ والكرنتينا وحي الغوارنة وبرج حمود والنبعة وتل الزعتر وإهدن و”السبت الأسود” وكنيسة “النجاة” وإغتيال الرئيس كرامي وداني شمعون (يا هل ترى أين كان دوري خلال هذه المجزرة ومجزرة “الصفرا”؟)، ومذابح صبرا وشاتيلا وغيرها؟
آخر من يحق له الكلام عن إعادة صياغة كتاب التاريخ في لبنان هم هؤلاء الذين يفتعلون مشكلة لأنها ستكون بمثابة عش دبابير لا يعرفون من أين تأتيهم اللسعات. في كل دول العالم قاطبةً تحظى المقاومة التي تهزم العدو بأعظم مكانة في كتب التاريخ المدرسية والأكاديمية إلا في “عجيبة البلدان” لبنان، حيث من كثرة الطعنات بالمقاومة تكسرت النصال على النصال. في دول العالم تُكرّم المقاومة ورجالها في كل المحافل، أما في لبنان فيفتخر بالقاتل والمتعامل والخائن والمتآمر لنزع مصادر القوة والمنعة من بلده.
بلا التاريخ الأسود أفضل لكم. “ركّوا” على العربي أو الجغرافيا أو.. أحسن شيء، على أكبر صحن “ملفوف” دخل التاريخ!
Leave a Reply