القاهرة – طغت أجواء الحزن على المشهد المصري بعد الإعلان عن وفاة بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الاسكندرية للأقباط الأرثوذكس شنودة الثالث، الذي وافته المنيّة السبت الماضي عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاماً، أمضى خلالها على رأس الكنيسة القبطية أكثر من أربعين سنة، وبرحيله فقدت مصر أحد أهم صمامات أمانها بعد أن لعب “بابا العروبة” دوراً هاماً في تهدئة التوترات الطائفية في البلاد.
فقد شيع المصريون البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية قبل نقله إلى وادي النطرون، حيث دفن بناء على وصيته، على أن تبدأ إثر ذلك عملية معقدة لاختيار خليفة له.
وتوفي البابا شنودة بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي أرغمه خلال السنوات الماضية على التوجه كثيراً إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج. وذكرت وسائل إعلام أن شنودة كان يتلقى العلاج بسبب ورم في الرئتين، وقد تدهورت صحته فجأة خلال الأيام الماضية، إلى أن أصيب بأزمة قلبية تسببت في وفاته.
وتقاطر آلاف الأقباط فور سماعهم خبر وفاة البابا إلى الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية في القاهرة. وذكرت وكالة “أنباء الشرق الأوسط” أن ثلاثة أشخاص لاقوا حتفهم، وأصيب آخرون، بسبب الزحام الشديد حول الكاتدرائية، والذي أدى أيضا إلى تعطيل حركة المرور في المنطقة.
واحتشد آلاف المشيعين الذين اتشحوا بالسواد في الكتدرائية المرقسية وبها مقر البابا وسكنه في منطقة العباسية بشمال القاهرة حيث أقيم القداس الجنائزي. وحضر القداس أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك مطلع العام الماضي ومسؤولون في الحكومة ومرشحون محتملون للرئاسة التي ستبدأ انتخاباتها في أيار (مايو) وسياسيون ووفد من الفاتيكان ومسؤولون وسفراء عرب وأجانب.
وكان رؤساء الكنائس القبطية الأرثوذكسية في الخارج وممثلو كنائس أجنبية مختلفة توافدوا الى مصر في الأيام الماضية للمشاركة في الجنازة.
وقطعت السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون عطلة في بلادها وعادت لحضور القداس.
وتم إلباس جثمان البابا الملابس الكهنوتية ووضع على كرسيه البابوي، وبقي كذلك لمدة ثلاثة أيام حتى يتمكن الجمهور من إلقاء نظرة الوداع عليه.
وفي ختام القداس الذي تخلله بكاء نساء ورجال، حمل أعضاء في المجمع المقدس النعش الذي ضم جثمان البطريرك رقم 117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى خارج الكتدرائية لنقله إلى مدفنه في دير الأنبا بيشوي بمنطقة وادي النطرون في الصحراء شمال غربي القاهرة.
وبناء على وصيته، سيُدفن البابا شنودة الثالث في دير وادي النطرون الواقع في منتصف الطريق تقريبا بين القاهرة والإسكندرية. يذكر أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات كان قد حدد إقامة البابا في دير وادي النطرون عام 1981 لانتقاده معالجة الحكومة لعنف الإسلاميين المتشددين في السبعينيات ومعاهدة السلام التي أبرمتها مصر مع إسرائيل عام 1979.
وقالت صحف محلية إن المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة خصص طائرتين عسكريتين لنقل جثمان البابا ومرافقي الجثمان من الأساقفة إلى مقر الدفن. ولثلاثة أيام احتشد عشرات الألوف من رعايا الكنيسة والمسلمين في الكتدرائية وحولها لإلقاء نظرة الوداع على البابا الذي نال احترام المصريين لحرصه على الوحدة الوطنية ورفضه زيارة القدس بعد معاهدة السلام مع إسرائيل إلا إذا أقيمت الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، كما حرم على الأقباط التعامل مع الكيان الصهيوني.
وردد المحتشدون هتافات تقول “اوعى تقول البابا شنودة مات.. البابا شنودة في السموات” و”يا رب”.
وحمل شبان وبنات لافتات خارج الكتدرائية كتبت عليها عبارات تقول “وداعا للأسد المرقسي” و”بطل المحبة والسلام البابا شنودة”. ووضع شبان شارات سوداء على أذرعتهم كتبت عليها كلمة “حداد” باللون الأحمر.
وعلى مدى 40 عاما أمضاها البابا شنودة في رئاسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية سعى لتهدئة التوتر الطائفي في مصر. ومن كلماته الأثيرة لدى المصريين “مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا”.
ومن ناحيته، اعتبر الأزهر في بيان أن مصر “فقدت أحد كبار رجالاتها المرموقين في ظروف دقيقة وبالغة الحساسية”، مشيراً إلى أن الأزهر بكل مؤسساته “يذكر للراحل الكبير مواقفه الوطنية الكبرى”، و”يذكر بكل الإكبار والتقدير موقفه من قضية القدس الشريف وفلسطين العربية وصلابته في الدفاع عنها وعن تاريخها ومقدساتها”، فيما قال مفتي الديار المصرية علي جمعة إن “وفاة قداسة البابا تمثل فاجعة ومصابا جللا تعرضت له مصر كلها وشعبها الكريم مسلمين ومسيحيين، على حد سواء”.
كذلك، قدم “حزب الحرية والعدالة”، المنبثق عن جماعة “الإخوان المسلمين” تعازيه للأقباط، مشيدا بـ”الدور الكبير” للبابا شنودة الثالث.
وبعث الرئيس السوري بشار الأسد برقية تعزية إلى المشير طنطاوي، اعتبر فيها أن “قداسة البابا شنودة ترك بصمة راسخة في الحياة الإنسانية والوطنية في مصر والعالم، وكان مثالا لرجال الدين الذين تميزوا بالانفتاح والحكمة والتفاني في حب الوطن والدفاع عن الحق والعدالة وقضايا الأمة العربية ونشر المحبة وقيم الحوار والتسامح”.
وفي واشنطن، حيا الرئيس الأميركي باراك أوباما ذكرى “داعية للتسامح والحوار الديني”. وقال أوباما في بيان انه وزوجته ميشال “حزينان لتلقيهما نبأ وفاة بابا الأقباط شنودة الثالث”، مشيراً إلى أنه يستذكر البابا شنودة “رجلا صاحب إيمان عميق وزعيما لدين عظيم، وداعية للوحدة والمصالحة”.
وفي الفاتيكان، قال المتحدث باسم الكرسي الرسولي إن البابا بندكت السادس عشر “يتحد روحياً في الصلاة” مع المسيحيين الأقباط الذين كان البابا الراحل “راعياً عظيماً” بالنسبة لهم. وأضاف “لن نتمكن يوماً من نسيان اللقاء بين البابا شنودة الثالث والبابا يوحنا بولس الثاني في القاهرة لمناسبة زيارة الحج التي قام بها الى جبل سيناء في اليوبيل الكبير (في العام 2000)، في لحظة مهمة من الحوار والالتقاء بالإيمان المشترك في المسيح”.
خلافة شنودة
وستبدأ إجراءات اختيار بابا جديد بفتح باب الترشيح يوم الجمعة ٢٣ الجاري. ووفقا للقواعد المعمول بها في الكنيسة القبطية تنظم لائحة كنسية خلافة البابا وتجرى مراسم الخلافة على مدى نحو 60 يوما يختار طفل في مرحلتها الأخيرة ورقة من بين ثلاث ورقات بها أسماء أكثر الحاصلين على أصوات الناخبين من رجال الدين ورعايا الكنيسة الذين يضمهم المجلس الملي العام.
ويقال إن الاختيار الأخير الذي يقوم به الطفل يعبر عن مشيئة الله.
Leave a Reply