يوم الثلاثين من شهر آذار (مارس) عام 1976، كان يوم انتفاضة شعبية فلسطينية في داخل الأراضي المحتلّة منذ العام 1948. فبعد 28 عاماً من أحكام مختلفة تحظر التجوّل والتنقّل، ومن إجراءات قمع عسكري وتمييز عنصري واغتصاب للأراضي وهدم للمنازل، هبّ الشعب الفلسطيني في معظم أماكن التجمّعات العربية في الأراضي المحتلة عام 1948 ضدّ الاحتلال الصهيوني، واعتمدت الانتفاضة أسلوب الإضراب الشامل والمظاهرات الشعبية، حيث واجهتها قوات الاحتلال بالرصاص والقتل مما أدّى إلى استشهاد عدّة فلسطينيين إضافةً لعشرات الجرحى واعتقال المئات منهم. وقد سبق هذه الانتفاضة مصادرة السلطات الصهيونية نحو 21 ألف دونم من الأراضي العربية لتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطّط تهويد الجليل.
وقد تفاعلت جموع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وغزة مع انتفاضة فلسطينيّي الداخل، فأصبح “يوم الأرض” مناسبةً وطنية فلسطينية وعربية ورمزاً لوحدة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
اليوم، بعد 36 سنة على ما حدث في العام 1976، ما زالت الأرض الفسطينية محتلّة، وما زالت القدس والضفة تشهدان المزيد من الاستيطان والتهويد دون أيِّ رادعٍ دولي أو عربي.
الأخطر من ذلك كلّه، أنّ الجسم الفلسطيني ما زال منقسماً على نفسه، ممّا انعكس أيضاً على وحدة الأرض الفلسطينية وسكّانها ومؤسساتها الرسمية والمدنية.
ربما تحتاج فلسطين اليوم –كما كل البلاد العربية– إلى “يوم الوطن” في مواجهة حال الانقسام، استمكالاً لـ”يوم الأرض” الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
فلا إمكانية لمواجهة احتلال أو تحرير أرض أو انتزاع حقوق في ظلّ حال الانقسام والتشرذم السائد الآن فلسطينياً وعربياً، بل سيؤدّي هذا الحال إلى مزيدٍ من “الاحتلالات” والتدخّل الأجنبي، وإلى “تهويد” الأرض والناس معاً.
عام 1897، قال تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية، مخاطباً أعضاء المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في سويسرا، “إنّكم بعد خمسين عاماً ستشهدون ولادة دولة إسرائيل”.
وكان كلام هرتزل سبباً لاستهزاء بعض أعضاء المؤتمر، لأنّ المسافة الزمنية التي تحدّث عنها لم تكن بنظر هذا البعض كافيةً لإحداث تغييراتٍ في العالم وفي أرض فلسطين لتظهر، كحصيلة لهذه المتغيرات، دولة إسرائيل.
وبالفعل، فقد شهدت نهاية العقد الرابع من القرن العشرين إعلان دولة إسرائيل وبدء مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، وانتقالاً نوعياً في عمل الحركة الصهيونية بحيث أصبح للمنظمة الصهيونية العالمية دولة اعترفت بها الأمم المتحدة، ولكن ليس لهذه الدولة حتّى الآن خارطة تبيّن حدودها الدولية النهائية.
وفي أواسط الخمسينات، تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعةً لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّه. وكان الحل في خلاصة أفكار هذه الرسائل: البحث عن ضابط في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل ثمّ يتدخل الجيش الإسرائيلي ويحتلّ المناطق الضرورية لكي تقوم “دولة مسيحية” متحالفة مع إسرائيل. وقد تحقق هذا المشروع الإسرائيلي في العام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء “دولة لبنان الحر” في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
وفي شباط (فبراير) 1982، نشرت مجلة “اتجاهات-كيفونيم” التي تصدر في القدس، دراسةً للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات”، جاء فيها: “إنّ العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكوّن كلّها من مجموعاتٍ عرقية مختلفة ومن أقلّياتٍ يسودها العداء لبعضها (…) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي”.
ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي، كما كان عليه في مطلع عقد الثمانينات، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل في ثمانينات القرن العشرين، والذي يتّصل مع خطّتها السابقة في عقد الخمسينات، جرى بدء تنفيذه أيضاً من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982 ثمّ إشعال الصراعات الطائفية خلال فترة الاحتلال، وفي أكثر من منطقة لبنانية.
وفي 11 آب (أغسطس) 1982، أي خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال رئيس حزب “العمل” الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز ما نصّه الحرفي: “إنّنا لا نريد وتحت أية ظروف أن نتحوّل إلى شرطي في لبنان، ولكن الحل الأقرب للتحقيق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسيمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى أي إلى نظام متصرفية جبل لبنان”.
وفي عام 1982 أيضاً أعلن أرييل شارون أنّ نظرية “الأمن الإسرائيلي” تصل إلى حدود إيران وباكستان!
***
خلاصة هذا العرض المختصر للمخطط التفتيتي الصهيوني للمنطقة العربية أنّه مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الحكومات الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأشخاصها، فإنّ تنفيذ المخطّط يبقى مستمرّاً حتى يحقّق أهدافه الكاملة. فلا ترتبط الإستراتيجيات والخطط الإسرائيلية بحزبٍ معين في إسرائيل ولا بشخصٍ محدد، بل هناك مؤسسات وأجهزة وأدوات تتابع التنفيذ منذ “مؤتمر بال” في سويسرا عام 1897 مروراً بتأسيس دولة إسرائيل ثمّ حروبها المتعدّدة على دول المنطقة.
وما يقوله الزعماء الصهاينة عن مخطّطاتهم (كما فعل هرتزل) لا يعني التنبؤ أو التنجيم الفلكي، بل هو ممارسة “الأسلوب العلمي” في الصراع حيث هناك دائماً “حركة يومية” و”خطط عملية” لتنفيذ “إستراتيجية” تخدم “الغاية النهائية” الموضوعة سلفاً. وكلّ خطّة، في أيِّ صراع، عليها مراعاة عنصريْ “الإمكانات المتاحة” و”الظروف المحيطة” لاستخدامهما واستغلالهما لصالح المخطّط المنشود تحقيقه.
ما سبق عرضه عن هذه المخطّطات الصهيونية، لا يعني أننا –كعرب- ننفّذ ما يريد الصهاينة أو أنّنا جميعاً أدوات وعملاء لإسرائيل! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخطّطات الصهيونية والأجنبية الشاملة. فنكون دائماً “ردّة فعل” على “فعل” ما، بينما الإسرائيلي أو الأجنبي يتوقّع سلفاً ماهيّة ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظيفها في إطار أهدافه.
وإذا كان التساؤل مشروعاً عن مسؤولية بعض الأنظمة العربية تجاه ما حدث ويحدث من نجاح للمخطّط الصهيوني، فإنّ السؤال الخطير هو: كيف يجوز لشعوب الأوطان العربية أن تكون مسهِّلاً لتنفيذ هذه المشاريع الصهيونية؟
فاستعراض حال الواقع العربي الراهن يؤدّي إلى نتيجةٍ سلبية للأسف، بسبب الشرخ الخطير داخل الشعب الواحد في أكثر من بلدٍ عربي. إذ هناك دعوات وممارسات طائفية ومذهبية وإثنية تسود عدّة بلدان عربية بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث.
أيضاً، هناك تركيز إعلامي وسياسي على تفسير وربط ما يحدث في المنطقة بأمور فئوية ثمّ توزيع المناطق والحركات السياسية على قوالب طائفية ومذهبية وإثنية.
إنّ مسؤولية التصدّي لحال الانقسامات ولمشاريع التفتيت تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تميّز خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه. وهي مسؤولية أتباع كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدركوا أين تقف حدود هذه الانتماءات الدينية وأين تبدأ حدود المواطنة والأوطان، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ فئوي يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه…
المسؤولية تشمل أيضاً الحكومات والمنظمات التي استباحت لنفسها استخدام الاختلافات الدينية أو الإثنية في صراعها مع بعضها البعض أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنية لها.
إنّ المعرفة الأفضل لكلٍّ من الدين والعروبة، والعرض السليم لهما من قبل المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، سيساهمان بلا شك في معالجة الانقسامات الدينية والإثنية في المنطقة العربية. كذلك، فإنّ البناء الدستوري السليم الذي يحقّق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد ويضمن الحريات العامّة للأفراد والجماعات، هو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع.
حبَّذا لو سبق ما يحدث الآن من حراك شعبي عربي عام ، بناءٌ سليم للحركات السياسية، الدينية والعلمانية، ولمنظمات المجتمع المدني المعنية بوسائل التغيير الجاري حالياً، لَما وجدنا أمام أعيننا ما نجده الآن من انقسامات تهدّد وحدة المجتمعات والأوطان. فـ”الوطن” هو مزيج من “أرض” و”شعب” و”حكم”. وها نحن نشهد تغيير “حكّام” على “أراض” مهدّدة بالاحتلال أو الهيمنة الخارجية، و”شعوبها” ينخر داء الانقسام بجسمها!.
Leave a Reply