حيرة وتناقض
لم يكن هناك بدّ بالنسبة إلينا من العودة للحديث مجدداً على ثورات الربيع العربية، لكن هذه المرة سيكون الحديث مختلفا انه محاولة للبحث عن الحد الفاصل في هذه الثورات بين الحقيقة والخيال، بين الصدق والكذب، بين العفوية والتدبير.
حقيقة، لا يمكن الاجابة بطريقة أكثر دقة وواقعية وملامسة لحقائق الواقع في ما حصل في المنطقة العربية اخيرا من هزات وانتفاضات إلا إذا قمنا بمحاولة فهم الميكنزمات والآليات التي حركت ولا زالت تحرك الشارع العربي. لا بد إذاً من تفكيك صورة المشهد العربي لمعرفة كل اضلاعه واطرافه وخلفياته وغاياته. رغم مرور أكثر من سنة على انطلاق أغلب الاحتجاحات والمظاهرات والثورات في كثير من الدول العربية وبلوغ بعضها غايتها في إسقاط بعض الأنظمة واستمرار الحراك في بعض الدول الاخرى، لا زالت التساؤلات نفسها التي سؤلت في بداية الثورات والحراك تتكرر، ولازالت الحيرة التي ارتسمت على وجوه الكثيرين ترتسم الى الآن. أسئلة حائرة لم يجد سائلوها أجوبة عليها أو انهم لم يطمئنوا لما سمعوه من الاجابات. ولا زال قطاع واسع من كل شرائح المجتمع العربي متعطشاً لمعرفة المزيد من تفاصيل المشهد السياسي العربي الحالي، لانه لم يجد الجواب الشافي والكافي لكل ما يدور حوله.
ماكينة الاعلام التي كان من المفترض ان تقف على الحياد وتنقل المشاهد والحوادث كما هي، زادت الطين بلة، وشوشت المشهد وما يدور في الشارع العربي بعد ان اصبحت طرفا في الصراع، وشريكا في كل ما يتفاعل فيه، مما زاد في البلبلة وعدم وضوح الرؤية امام المتابع العربي الذي يبحث عن حقيقة لا زالت ضائعة او بالاحرى مُضيّعة.
ما الذي حصل بالضبط في واقع العرب، وماذا يحصل الآن، وما الذي سيحصل مستقبلا إعتمادا على معطيات الماضي والحاضر؟ هل فعلا تملك كل القوى المناهضة للانظمة العربية الروح الثورية والغايات الوطنية لتقود تحركات يمكن ان نسميها ثورية، أم هي ليست إلاّ دمى تحركها الايادي الإقليمية والخارجية من وراء الستار؟ هل نحن بصدد الحديث عن “بروسترويكا عربية” على الطريقة السوفياتية، وماحدث فيها من ثورات وانفصال الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي في عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف، أم أننا أمام “تسونامي سياسي” عربي تعبيراً عن هبّة وغضبة عربية عارمة ستجرف كل ما حولها مهما كانت المعوقات، أم هي امطار طوفانية ناتجة عن غيوم اصطناعية لا تلبث ان تهدأ بنفس السرعة التي ابتدأت بها، أم هي مزيج من هاته هذه وتلك أو من كل ذالك؟
الثورة المؤامرة: أمْرٌ دُبـّر بليـل
في ظل الفوضى والاضطراب والضبابية، وتسارع الأحداث وتناقضها، وبروز عوامل تدخل خارجي في الثورات العربية، بدأ الحديث عن وجود مؤامرة ما خلف ما يحدث بالمنطقة، وان ما يجري قد يكون مدبرا مسبقا في غرف الظلام وفي ليل “مالو قمر” وانه قد آن أوان توقيت تنفيذه، وقد اعتمد اصحاب هذه النظرية لتأكيد وجهة نظرهم على المعطيات التالية:
– أولاً: ما حدث في تونس كان فجائياً ولم تكن له بوادر سابقة كالإضطرابات أو أيّ حراك شعبي، وأنّ ما حدث في مصر هو استمرار لما حدث في تونس وفي شمال افريقيا، نظرا لكون المنطقة كانت الحلقة الاولى المستهدفة في المنطقة العربية ضمن الاجندة المرسومة لها، كما أنّ مصر كانت تشهد أزمة خلافة مبارك، وأن اصحاب الاجندة أرادوا حل الأزمة بعملية تنفيس للغليان والرفض الذي عبرت عنه الاحزاب المصرية ضد التوريث وضد استمرار مبارك في الحكم، فوقعت ازاحة مبارك الرمز، ليستمر النظام كما هو في ظل حكم العسكر.
ثانياً: إن ما حدث في ليبيا من إستعمال القوة المفرطة وشن حرب قادها حلف “الناتو” على ليبيا يدل على إصرار القوى التي تقف وراء مخطط إسقاط بعض من منظومة الحكم في المنطقة العربية على الإستمرار في المخطط مهما كلف الثمن، لتبعث اشارة الى بقية الحكام المستهدفين أن تخلوا بسرعة عن كراسيكم إذا جاء دوركم.
ثالثاً: ان ما حدث في اليمن هو عملية تجميل للنظام قادتها المنظومة الخليجية ومن ورائها لضرب عصفورين بحجر واحد. أولا، أن يبعثوا برسالة أن دول الخليج غير مستهدفة بما يجري في دول أخرى وبما يُهيأ للمنطقة، بل هي طرف في تخطيطه وتوجيهه، وبأنه لا يمكن أن يحدث أيّ تغيير على حدودها بدون تدخلها أو بدون مشاركتها ومباركتها، وثانياً، أن دول الخليج استطاعت أن تحافظ عبر “المبادرة الخليجية” لحسم أمر الثورة اليمنية لصالح استمرار النظام اليمني بتحول الرئاسة من حاكم الى نائبه الذي لا يستطيع أن يكون أكثر من ظلّه، مع خروج الرئيس صالح بأمواله وعائلته وبحصانة كمكافئة على نهاية الخدمة.
رابعاً: ان ما يحصل في سوريا هو الحلقة الأساسية المستهدفة فعلا ضمن سيل الإنهيارات التي تشهدها المنطقة وإن سقوط النظام فيها هو “أمّ الضرورات” و”أساس الأجندة” التي تستهدف المنطقة برمتها، ويذهب البعض الى حدّ إعتبار أن ما حصل في المنطقة هو، فقط، مقدمة حتى يظهر ما دُبّر ويحدث لسوريا طبيعيا أيّ سقوط نظام ضمن سلسلة الثورات والتحوّلات في البلاد العربية.
الثورة المُغامرة: تحرك شعبي وعفوي
في مقابل “نظرية المؤامرة”، يذهب تيار آخر الى أن الثورات العربية هي أمر طبيعي نتيجة السياسة الخرقاء التي مارستها وتمارسها الانظمة العربية الفاسدة على مدى سنين حكمها. ويرتكز هذا التيار في تفسيره لما جرى ويجري بالمنطقة على الأسباب التالية:
– السياسة القمعية الإستبدادية التي مارستها الانظمة العربية وتمارسها ضد الشعوب العربية التي لم تعد تتحمل تلك السياسة، إضافة الى غياب التعددية السياسية والحزبية والتداول على السلطة.
– سياسة الحيف الاجتماعي والاقتصادي المنتهجة في البلدان العربية والتي نخرها الفساد والمحسوبية والتفاوت الاجتماعي والجهوي.
– إزدياد إرتباط الانظمة العربية بالخارج، وتحويل بلدانهم الى بقرة حلوب تُشفط مدخراتها ويقع تحويلها إلى “بلاد بره”، واستمرارهم في بيع قضاياهم بلا ثمن وتحويل دول المنطقة الى مجرد ذيل للخارج.
وتبدو كل هذه العوامل حقيقية في أغلبها، وهي تمثل أكثر من حافز وعامل وسبب لتحرّك الشعوب العربية ضد انظمتها والثورة عليها لإسقاطها، لأن تلك الانظمة قد فقدت مبررات وجودها أمام شعوبها.
أما شبهة الخارج ودوره في تأجيج الثورات العربية والوقوف مع الشعوب ضد الانظمة الفاسدة فهو أمر طبيعي، بحسب هؤلاء، ونصرة لحقوق الانسان وهو أمر غير مستغرب من دول غربية تقوم أنظمتها على قيم العدل والتداول الديمقراطي على السلطة. اما وقوف الانظمة الخليجية مع الثوار العرب في الدول ذات الانظمة الجمهورية فهو أمر أكثر من منتظر لنصرة أخوة في الدين والدم ضد حاكم ظالم وقاهر. ولذلك قامت المنظومة الخليجية بنجدة تلك الشعوب مرة بجلب “الناتو” ليقصف ليبيا ويحرر شعبها ومرة أخرى قامت بتسليح مجموعات من السوريين وغير السوريين كمساعدة لهم للدفاع عن النفس كما سمعنا من حكام وأمراء الخليج. وكانت تلك المساعدة جائزاً شرعاً، طبعاً، بعد أن أفتى “علماء الدين” بجواز ذلك.
الأمور على ما يبدو مبررة والثورات شرعية لا غبار عليها، “حاجَه بقى”، كما قال أحد المحللين السياسيين، فليس من المعقول أن نفسر كل تحرّك شعبي بـ”نظرية المؤامرة” والأجندات الداخلية والإقليمية والخارجية…
إذاً فالثورات العربية كانت عملية مغامرة غير محسوبة وخروجا عفويا لم يُدبر له أحد مسبقاً، لا من الداخل ولا من الخارج، للوقيعة بين أفراد الوطن الواحد، بل كان تحركاً للدفاع عن النفس بعد أن فاض الكأس.
نعم، لا يجب أن نشيطن أي تحرك شعبي ونعته بالمدبّر من الخارج، وكأن شعوبنا مستسلمة خانعة وقانعة. نعم، لا يمكن للشعوب التي انجبت عمر المختار والامير عبدالقادر الجزائري وعبد الناصر وعبد العزيز الثعالبي وسلطان باشا الاطرش وغيرهم كثر، أن تكون كذلك.
ورغم ما تقدم من توضيحات لازالت هناك بعض التساؤلات التي لم يجب عليها كلا الاتجاهين المتضادين، وسنحاول اعتماداً على ما لدينا من المؤشرات والمعطيات التي لا بد من بسطها وتمحيصها حتى يمكننا أن نخرج بخلاصة أقرب ما تكون للموضوعية لما حصل ويحصل في بلاد العرب.
حدود الحقيقة
لقد بدأنا نلامس أجزاء من الحقيقة بعد أن تناولنا الطرحين المتضادين حول تقييم ما جرى وما يجري من تحركات وانتفاضات وثورات ضد بعض الانظمة العربية. التوجه الاول، والذي يرى أن الانتفاضات مدبر ومؤامرة، والتوجه الثاني المخالف والذي يرى أن الانتفاضات العربية حركات شعبية عفوية وثورات ضد الظلم. لكن بشيء من التمحيص يمكننا ان نستنتج ان التوجهان على تناقضهما على حق، وهنا يقفز مباشرة سؤال بديهي وهو كيف يمتلك الحقيقة الواحدة رأيان على طرفي نقيض؟ وهو كذلك سؤال وجيه، والجواب، هو إن في كلا وجهتي النظر جزء من الحقيقة فإذا جُمعت اجزاء الحقيقة بعد تفكيك المشهد وإعادة تركيبه نكون قد وصلنا الى وجهة نظر اكثر مصداقية وإتساقا مع الواقع مما يمكّننا من تقييم ما حدث ويحدث في المنطقة العربية بكثير من الثقة والاطمئنان لما توصلنا إليه.
وعلى ما يبدو ان خلط الاوراق هذا كان ضمن سياسة اعلامية موجهة هدفها خلق حالة من البلبلة واللا يقين وعدم الوضوح لدى شعوب المنطقة، إنها “الوقيعة” التي اقتفينا اثرها في الوقائع والاحداث، حتى امكننا أن نصل الى وجهة نظر نزعم أنها أقرب الى الحقيقة والواقع، وأبعد عن الخيال.
تعالوا إذا لنتتبع العفوي والمدبر والمبيّت في كل ما حصل ويحصل من تظاهرات ضد الانظمة العربية، لنبدأ من البداية مع الثورة التونسية التي نعتبرها تحرك ثوري وعفوي فاجأ الجميع داخليا وخارجيا، وكان سببه الحراك الذي قاده النقابيون والعمال في جنوب البلاد فيما عرف بإنتفاضة الحوض المنجمي التي قمعها النظام، تلى ذلك حرق البوعزيزي لنفسه ولا نعتقد إنه أخذ أمراً من أحد ليفعل ذلك. بموته قام تحرك شعبي وهاجت وماجت البلاد التي كانت تنتظر عود الكبريت لتشتعل، فشل النظام في قمع الثورة ثم فرّ الرئيس لما أُسقط في يده. سقوط بن علي حرك كل القوى الداخلية والإقليمية والخارجية والتي لها مصالح في المنطقة، لأنها أيقنت ان الحريق سيمتد ليطال أنظمة أخرى، وهنا تحركت الأجندات التي كانت مُعدة سلفاً في محاولة لتوجيه التحركات لصالحها. فالأجندات قد تُخطّط لكنها لا تملك قدرة التحكم في التوقيت والمجريات. تلى تونس تحرك مصر وهو تحرك ثوري ومدبر، لكن مدبر من شباب مصر اقتداءً بما حصل في تونس. مع التحرك الشعبي المصري تحركت قوى الضغط الخارجية والاقليمية الخليجية لتحاول توجيه الثورة حيث تريد، البداية كانت بمحاولة إستبقاء مبارك، لكن لما باءت الأمور بالفشل جاء دور قيادات الجيش لينتقل الامر من العسكري مبارك الى العسكري طنطاوي. ويُرجى من القادمين الجدد الى حكم مصر عبر الصناديق أن يصححوا الوضع، وإلاّ يا خيبة مسعى الشباب. بعد ذلك توالت التحركات الشعبية في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين والسعودية، ليبيا الغنية بالنفط اثارت شهية كل القوى خاصة الغربية التي استغلت ماضي القذافي الاستبدادي مع شعبه كشماعة لتخفي رغبة السيطرة على أحد أهم منابع النفط العربي، تحت غطاء انساني لكن الاف الضحايا من المدنيين قتلوا لتسود بعد ذلك الفوضى التي يواجهها الليبيون حاليا دون أي مساعدة من “الاصدقاء” ممّا يدل ان الهدف من ضربها لم يكن إلا النفط. اليمن غُدرت ثورتها بتدخل خليجي خشي ان ينتشر شرارها الى دول منظومة التعاون، لكن رغم ذلك امتدت نار الثورة الى البحرين والى شرق السعودية رغم محاولات قمعها بكل الوسائل.
أكثر الانتفاضات التي أفرد لها الاعلام تغطية خاصة على مدار الساعة هو الحراك السوري الذي بدأ كغيره شعبياً، امتداداً لما حصل في بقية البلدان العربية، إلا أن أطرافا اقليمية وخارجية دخلت على الخط وحوّلت وجهة الحراك السلمي بتسليحه ليتحول الى صراع مسلّح. التدخل الخارجي حرمنا من معرفة حجم التحرك الشعبي السلمي، هل كان سيظل محدوداً ولا شعبياً، أم سينمو ليتحول تحت ارادة عارمة الى ثورة شعبية؟
أسئلة أخرى تحيلنا الى استنتاجات هامة حول الانتفاضة السورية وهي، لماذا لم يتم تسليح الثورات السابقة في تونس ومصر واليمن رغم سقوط ضحايا مدنيين؟ لماذا حاولت كل الأطراف الإقليمية والدولية في مرات عديدة الابقاء على بن علي ومبارك وصالح، ولم تحرك ساكناً ضد ما يجري في البحرين، لكن في المقابل دعت الى تنحي الأسد، وفوراً؟
إذا كان النظام السوري يجب أن يذهب لأنه دكتاتوري، فلماذا لم توجه الدعوة نفسها الى الأنظمة الخليجية للتنحى وهي الأنظمة الأكثر إستبدادا وفساداً وتخلفاً في المنطقة؟ كما لنا أن نتسائل لماذا جُندت مئات وسائل الاعلام لتتحدث عن التحركات في سوريا وفي اتجاه واحد لصالح المجموعات المسلحة؟ لماذا أصبحت المؤسسات الإقليمية والدولية لا شغل لها إلا الاجتماع للبحث في سيناريوهات رحيل النظام السوري، هل لهذا الحد بلغ حبهم العارم للشعب السوري؟ كيف سيكون مستقبل سوريا في ظل البدائل المعارضة التي تُعد في الخارج؟ ما الذي سيتغير في المنطقة بسقوط النظام في سوريا ومن هم الرابحون ومن هم الخاسرون؟
بالإجابة عن هذه الأسئلة نكون قد وضعنا أصبعنا على جزء كبير من الحقيقة.
Leave a Reply