لطالما كانت ظاهرة استخدام العنف ضد الأولاد مسألة ذات أبعاد إجتماعية وتربوية متشابكة ومعقدة، وقد واجهت  جميع المجتمعات المتخلفة منها والمتحضرة على نحو سواء، هذه المعضلة مثيرة في كل مرة سجالاً إجتماعياً وعاطفياً وقانونياً، للإحاطة بهذه الظاهرة الحيوية بأبعادها ونتائجها وتأثيرها على شريحة كبيرة من الناس.
نحاول، في هذا التقرير الصحفي، رصد البعد الإنساني الحقيقي الذي يقف وراء ظاهرة العنف الأسري، فنقع أمام عجز في تصديق أو إستيعاب قدرة الآباء على ممارسة الضرب العنيف ضد أولادهم، على غفلة من القانون والمجتمع والبيئة المحيطة وخلف الأبواب المغلقة.
ضرب.. يجرد  من الإنسانية
تعبر أم هاني، وهي أم لولدين، عن خوفها الدائم من ترك أولادها مع أبيهم لأنه في غيابها يضربهما ضربا موجعا لأتفه الأسباب، وذلك في حال طلب أحدهما منه شيئا أو عجز الولد الأكبر البالغ من العمر 6 سنوات عن حل سؤال في وظيفة مدرسية. وتصل عقوبات الأب إلى درجة وحشية من القساوة، فهو يقوم بحمل إبنه الصغير ويضربه بالحائط، أو يمسك رأسه ويخبطه بالطاولة، وأحيانا يستخدم عصا الممسحة أو الحزام أو أي شيء يتوفر أمامه، حسب تعبير الأم.  
لكن ما الذنب الذي إقترفه إبن السادسة ليلقى إنصباب غضب أبيه الهمجي عليه؟
هذه الحالة هي واحدة من عدة حالات مشابهة نلمسها في أوساط الجالية العربية التي يقع الأولاد فيها ضحية العنف الأسري، مثلهم مثل الملايين في أنحاء العالم، الذين لم تتمكن القوانين المحلية وشرعة حقوق الطفل العالمية والمؤسسات الإجتماعية والثقافية والطبية والتربوية المعنية بحقوق الطفل من كبح تعنيفهم وضربهم..
شرّان أحلاهما مرّ
تجدر الإشارة الى أن القوانين التي وضعت من أجل حماية حقوق الأطفال كانت غايتها الأساسية الحد من حالات الضرب المتطرفة التي يمارسها بعض الآباء على أولادهم مما يتسبب بأذيتهم جسدياً ونفسياً. وهذه القوانين نفسها بدأت تطبق على شتى أنواع التربية بحيث لا يستطيع الأهل، خصوصاً في البلدان الغربية كالولايات المتحدة الأميركية، ممارسة خبراتهم التربوية الخاصة بهم على أولادهم الذين يتعلمون في المدارس كيفية مواجهة “عنف أبائهم” عبر الاتصال بالشرطة مثلاً. وتزداد المشكلة تعقيدا عندما يدرك الطفل أن هذه المسألة تحميه من تعنيف وتضييق الأبوين عليه، فيختلط الحابل والنابل، وتقع الأسر بين شرّين أحلاهما مر.
 وقد لا تحدث حالات الإتصال بالشرطة بكثرة، ذلك أن أكثر الأولاد الذين يقعون ضحية العنف الأسري يخافون كل الخوف من طلب المساعدة من أطراف خارجية بسبب رعبهم من فكرة أن ينزل بهم أشد أنواع العقاب والذي قد يكون أقله الضرب المبرح، أو الحبس في الحمام، أو في الأماكن المظلمة.. ألخ.
ضربني وبكى.. سبقني وإشتكى
من ناحيتها تروي “س.أ.” كيف طلب إبنها الشرطة لها بعد أن قام بكسر التلفاز وبعض قطع الأثاث المنزلية متهما أمه بالإقدام على هذا الفعل وضربه!. وتقول: “لم أضربه يوما ولطالما إعتمدت أسلوب الحوار والنقاش في كل المسائل ولكن أن يصل الأمر به الى التجنّي على أمه وإتهامها زوراً وتشويه سمعة المنزل، هذا أمر جعلني أعيد التفكير ملياً في الطريقة التي ربّيته بها. ربما لو أنني كنت قسيت عليه وعلمته أن يخاف مني بقدر ما يحترمني لاختلف الأمر..”.
 ويشتكي الكثير من الأهالي من هذه القوانين التي تحرمهم (برأيهم) من حقهم في تربية أولادهم كما يشاؤون، ولذلك ترى البعض منهم يشفون غليلهم على نحو مثير للضحك، ويستغلون فرصة سفرهم إلى بلادهم العربية، لبنان مثلا، فيبدأون بضرب أولادهم ابتداء من صالة المطار، هذه المرة، بتصرفات لا تخلو من الثأر، وفشة الخلق..
التربية.. والعقاب البديل
من ناحية أخرى، هناك عدة طرق تربوية تعتمد من قبل الأهل والمدارس لتربية الأولاد، فالمدارس التقليدية ماتزال تعتمد مفهومي الثواب والعقاب، كأسلوبين تربويين، وهنا تأتي إباحة الضرب وإعتماده كمحاولة لتصحيح إعوجاج الطلاب وضبطهم في حالات الشغب والتقصير، أما المدارس “الحديثة” فهي تعتمد أساليب تقوم  على مبدأ العقاب البديل، أي حرمان الأولاد من الإمتيازات والأشياء التي يحبونها بدل عقابه بدنياً، وبالطبع هنالك مدارس أكثر مرونة تعتمد أساليب تربوية من كلتا المدرستين.
يرفض المجتمع، نظرياً، شتى أشكال العنف الجسدي الذي يمارس على الأولاد، ولكن في المقلب الآخر يجد البعض منهم مبررات لضرب الأولاد بغاية التربية، بينما يرفضه البعض الآخر بإعتبار أن هنالك وسائل عقاب بديلة للتربية الناجحة.
فهل يكون “الضرب التربوي” وسيلة ناجحة في تربية الأولاد؟
تعتبر وفاء أن الضرب وسيلة لتخويف الأولاد وترهيبهم وتفاديه بأساليب العقاب البديلة يأتي بنتائج أفضل على صعيد بناء صحة نفسية للأولاد وبناء علاقة احترام متبادل بين الأبناء وأهلهم. وتقول: “أنا أم لثلاثة أولاد ولم أضرب واحدا منهم يوماً لأي سبب كان، فأشد عقاب عندي هو حرمانهم من الأطعمة والأشياء التي يحبونها ومنعهم عن مشاهدة التلفاز..”.
أما أمينة فترى أن الضرب ضروري ومفيد كأحد الوسائل لتربية إبنيها “تربية صحيحة”، حسب تعبيرها. وهي متخرجة بإختصاص التربية الحضانية ومن المؤمنين بالمدرسة التقليدية في التربية بحيث يكون الضرب الخفيف واحدا من أساليب العقاب للأولاد.
 وتقول: “أنا أضرب عندما يلزم الامر ولكن ليس تفريغا لغضبي. أضرب بقرار مسبق وأشرح لإبني لماذا أقوم بضربه كي يتعلم ولا يرتكب الخطأ نفسه”. وتضيف “في إحدى المرات أجبرته على أكل الفلفل الحار بسبب تفوهه بكلمات نابية.. وقد لجأت الى هذه الخطوة بعد أن استنفدت كل الأساليب الممكنة”.
وتشير مازحة “بعد هذه التجربة، صار ابني كلما سمع أحدا يتكلم كلاماً نابياً، يقول له.. أمي بدها تطعميك حرّ”.
 وتشدد أمينة: “ضربي لأولادي ليس عنيفا بل يكون  بحدود بحيث لا يتخطى حدود الصفعة أو الضرب بالمسطرة على اليدين وأعتقد أن خروج نطاق الضرب عن هذه الحدود يصبح خطرا حقيقيا على سلامة الأولاد الجسدية والنفسية”.
الضرب فنون
في السياق نفسه، تتنوع “فنون” الضرب، فمنها الضرب الناتج عن الغضب و”فشّة الخلق”، كما أنه يحدث وفي كثير من الأحيان لأتفه الأسباب، ويكون متمادياً إلى درجة أنه يؤدي إلى إعاقة الأطفال بشكل دائم والتسبب لهم بعاهات مستديمة وعقد نفسية مستعصية. وهناك الضرب من أجل غايات تربوية يرتجى منها التنبيه وقد تنتج عن قرار يتخذه الأهل في حال فشلت الأساليب البديلة في تقويم تصرف الولد، وعادة ما يكون هذا الضرب رمزياً بحيث يضرب على اليدين بمسطرة أو على المؤخرة وأحيانا بصفعة خفيفة على الخد..
الضرب يسبب الغباء
تجد ليلى في الحب معلما أولا للأولاد. هي أم لأربعة أولاد وتكمل دراستها في علم النفس. وتؤمن بالعقاب البديل كأسلوب لتربية أولادها كما ويجب أن يكون العقاب، برأيها، بأهداف محددة وقائمة على الإصلاح والتقويم وليس الإنتقام والترهيب، والتأكد من معرفة الطفل للسبب الذي يعاقب لأجله، وعدم إتخاذ العقاب كوسيلة للتشهير به لاحقا.
 وتقول: “هنالك الكثير من الدراسات التي أعدت مؤخراً والتي تشير الى أن ممارسة فعل الضرب وتكراره على الأولاد يؤدي الى شلل طاقاتهم العقلية والإبداعية. الضرب يجعل الأطفال أغبياء وبليدين”، تقول. وقد أظهرت إحدى الدراسات العلمية، مؤخرا، أن ضرب الأطفال المتكرر على أيدي أبائهم وأمهاتهم يعيق الذكاء والنمو العقلي لدى هؤلاء الأطفال. وأضافت الدراسة أن الأولاد الذين تعرضوا للضرب بشكل نادر، أو لم يتعرضوا له أبدا، أحرزوا علامات أعلى في الإختبارات المدرسية وقد أبدوا تفاعلاً إجتماعياً أفضل مع الميحط، كما تمتعوا بشكل ملموس بالثقة بالنفس.
أبحاث ووجهات نظر
سعى العديد من علماء النفس والإجتماع، على مر العصور إلى فهم دوافع ظاهرة الضرب وتبعاتها على صحة الأطفال النفسية والسلوكية، الوجدانية والعقلية، وتوصلت بعض تلك الأبحاث إلى أن الآباء الذين يقومون بضرب أولادهم كانوا هم أنفسهم عرضة للضرب عندما كانوا صغارا. بينما وجدت أبحاث أخرى أن إعتماد الضرب، كوسيلة تربوية، ليس غاية بحد ذاتها، ولا ثأرا بطبيعة الحال، إنما هو وسيلة غايتها تربية الأولاد وتأديبهم وتقويم سلوكهم بشكل يساعدهم على مواجهة كل أنواع المصاعب والمشكلات، حيث يجد الآباء في التربية التقليدية التي تعتمد بجزء كبير منها على العقاب بالضرب غير المبرح، بل التأديبي، وسيلة مثلى لتنشئة أطفالهم.
كما تجد بعض الآراء المبنية على أبحاث علمية، أن ضرب الأهل لأولادهم ظاهرة تتفشى في المجتمعات الفقيرة وفي بيوت العائلات التي تعاني من أحوال إقتصادية متعثرة. وكون حال الأنماط الحياتية اليوم في تسارع كبير تزيده تعقيدا شتى أنواع الحسابات المادية وسوء العلاقة الزوجية أو عدم الإستقرار النفسي وأحيانا وجود حالات شاذة في شخصيات الأهل التي تمارس العنف الجسدي المتطرف ضد فلذات أكبادها.
وعلى الهامش، تجدر الإشارة الى أن هنالك 19 ولاية أميركية لاتزال تعتمد التربية التقليدية في مدارسها، فيعاقب الأولاد بالصفع على المؤخرة بمسطرة خشبية.
منهم من لا يطاق
يعتبر أبو جهاد، أب لخمسة أولاد، أن تربية الأولاد مسألة في غاية التعقيد ولا تستطيع الدراسات الإحاطة بالكثير من جوانبها. ويقول: “من السهل إعداد النظريات إلا أن التربية الفعلية يقوم بها الأباء والأمهات. فكل ولد حالة خاصة بعينها، حتى أنا في عائلتي أتعامل مع كل ولد بطريقة مختلفة وإن بصورة لا واعية”.
وتشير زوجة أبو جهاد الى أن هنالك أولاداً عنيدين جدا  ويجب أن يضربوا، وتقول ساخرة: “ليس كل الاولاد “لذيذين” فمنهم من لا يطاق”.
خلاصة
تشير التجارب والخبرات إلى أن أغلب الناس يرثون عن آبائهم ومجتمعهم قيما وسلوكيات وآليات ومفاهيم يواجهون بها الحياة وتكون معايير ومقاييس للتواصل والتجاذب الإجتماعي والتعامل مع الآخرين في الميحط. وهذه الحقيقة تساعد على فهم إرتباط مسألة العنف الأسري بتاريخ الآباء. فمرحلة الطفولة الأولى، حسب بعض علماء النفس، وفي مقدمتهم سيغموند فرويد، تؤسس بشكل لاواعٍ وشبه نهائي لمزايا شخصية الفرد وأنماط سلوكياته التي ستلازمه مع تقدم العمر وتحكمه في معظم المواقف، ما يعني أن الأطفال الذي يمارسون عليهم العنف سوف يجدون في المستقبل لأنفسهم مبررات لتطبيق تلك القواعد على أولادهم، وقد تمتد تلك الممارسات العنفية عمن حولهم من الناس الآخرين.
نحن في زمن قد يكون فيه الضرب التربوي مسألة هامشية في البنية النفسية للطفل ونشأته، هذا لأن دور الأهل في التربية بدأ يتقلّص مع تداخل عالم التكنولوجيا والإتصال وعوامل أخرى بصورة سافرة في تشكيل شخصية الأولاد. فقد يكون الأهل لا يضربون أولادهم ويتعاملون بكل حب ومودة وحوار معهم ولكن هذا لن يكون كفيلاً بتربية ولد صالح والعكس صحيح تماماً.