مات الرجل الذي أثرى المشهد الفني السوري لنصف قرن من الزمان، والذي سطع نجما بلا ألقاب. فحتى اللقب الوحيد الذي أسبغه عليه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش لم يكن موفقاً. لقّبه بـ”أنتوني كوين العرب”، لا يرقى ولا يليق بمكانة تاجا. لكن بدون عقد، أو انحيازات “عنصرية” ألم تكن منى واصف أكثر براعة من الممثلة إرين باباس، حيث لعبت الممثلتان دور هند بنت عتبة في نسختي فيلم “الرسالة”، العربية والإنكليزية؟ ألم يطلب “أنتوني كوين” نفسه من الممثل المصري عبدالله غيث أن يقوم بأداء المشاهد التي يلعب فيها دور حمزة بن عبدالمطلب، في الفيلم نفسه، كي يتعلم منه؟
مات خالد تاجا!
رحل الممثل القدير الذي لم تسفعه موهبته الفذة في لعب أدوار بطولة من الدرجة الأولى، منذ دخل حلبة الفن في العام 1966 في فيلم “رجال في الشمس” المأخوذ عن رواية غسان كنفاني التي تحمل الإسم نفسه، ولاحقا في عشرات الأداور التلفزيونية التي تألق فيها كأحد أبطال الصف الثاني. مات تاجا بينما يخوض شعبه السوري، الذي كان دائما “يلعب” أدوار بطولة ثانوية مع “بطل رئيسي” واحد أوحد يشغل جميع الأدوار، معركة “البطولة” الحقيقية، مناضلا من أجل توسيع حجم الدور، والانتقال من شخصية “السنيّد” و”الصديق” الذي يموت من أجل أن يفوز بطل الفيلم بشفتي البطلة المكتنزتين في آخر الفيلم. الأدهى أن “الفيلم” السوري كان طويلا جدا ومملا جدا وكان السوريون مرغمين على مشاهدته لأربعين عاما.
مات خالد تاجا!
انتقل إلى جوار ربه ذلك الوجه المألوف في مواسم الدراما السورية المزدهرة، والتي بدأت تدخل بدايات خريف قسري بسبب ما تشهده البلاد من “مسلسلات” لا تقل درامية وتراجيدية، وأحيانا كوميدية، مسلسلات لم يعد أصحابها ينتظرون شهر رمضان لتسويق أعمالهم، بل صارت تبث على مدار الساعة، بحلقات 24/7. هذا ناهيك عن هجرة فنانين نجوم إلى “أم الدنيا” ليستفيدوا من “مناخها” الفني برمزيته ووزنه التاريخي، مع أن الدراما السورية استطاعت خلال العقد الماضي، أن تدفع الدراما المصرية إلى مواقع متراجعة أثارت، ليس غيرة المصريين الفنية، بل حنقهم وغضبهم الشديد.
مات خالد تاجا!
لكان موته صاعقا أكثر لو كان في ظروف عادية، ولكن أن يأتي هذا الغياب في الوقت الذي يقتل فيه العشرات من السوريين يوميا (10 آلاف شخص خلال عام واحد، بمتوسط حسابي قدره 30 شخص يوميا) فهذا يبعث في النفس تساؤلات مريرة وحسرات حارة. وفي كل الأحوال يليق بجثمان تاجا أن يشيع بجنازة مهيبة (مع أن مبدعين سوريين كبارا حرموا منها بسبب مواقفهم السياسية) إلى مثواها الأخير. وفي آخر الأمر، رحل تاجا ذو الشعر الناصع البياض والقلب الناصع البياض، في الوقت الذي تمر فيه سوريا بأكثر ايامها سوادا وقتامة. السواد الكبير يمكن استعارته كعلامة حداد..
/
أما وسوريا تودع الشهداء كل يوم، فخالد تاجا هو شهيدها اليوم، مع أنه لم يقتل برصاصة قناص أو شظية قذيفة. مات الرجل بسبب نقص الأوكسجين في رئتيه، وسوريا اليوم وبسبب الحريق تعاني من نقص الهواء الطلق..
Leave a Reply