لا شك أن ما تعرضت له سوريا من حملة شعواء، متعددة الأبعاد والأطراف، على مدى عام كامل، كان يبدو كفيلاً، نظرياً، بإسقاط نظام أي دولة في العالم. ولكن بعد أكثر من عام على أحداث درعا، برواياتها المتعددة، لا يزال النظام قائما في سوريا، بقيادته وعسكره وسلكه الدبلوماسي واقتصاده وشعبيته.
(وهنا نقصد بمصطلح “النظام” المعنى الحقيقي للكلمة، اي آلية تسير شؤون البلاد، وليس السلبي الذي اقترن بالهتاف الشعبوي: الشعب يريد إسقاط النظام!)
إذا ما هي الأسباب التي كانت وراء صمود النظام في وجه أكبر حملة ضغوطات وتشويه يشهدها العالم الحديث. حملة شنها تحالف واسع استخدم كل ما توفر لديه من نفوذ بأذرعه السياسية والمالية والدبلوماسية والإعلامية والإقتصادية والأممية ومنظماته الإنسانية؟
هناك من يجيب على هذا السؤال ببساطة: سوريا الله حاميها. ولكن بعيدا عن هذه المقولة، وللإجابة الوافية، لا بد من التمعن بالعناصر الفاعلة في “الهجمة” على سوريا، واستخلاص أسباب فشلها في تحقيق الهدف المرجو، وهو إسقاط النظام.
زخم الربيع العربي..
في صالون في مدينة كليفلاند جلست مجموعة من قدامى السياسيين. كان ذلك في النصف الثاني من آذار ٢٠١١. فتحت قصة درعا، الطازجة حينها، شهية الجالسين في تلك الأمسية الباردة.
توصل الحاضرون بما لاشك فيه، الى إن ثورة عارمة ستشتعل في سوريا، وأن مصير الأسد لن يختلف كثيراً عن مصير مبارك وبن علي.
أحد هؤلاء خالف الإجماع بثقة، رغم أنه لم يزر دمشق يوماً وكان يُحسب عليها خصماً.
قال، حينها، إن النظام السوري يختلف كلياً عن نظامي تونس ومصر اللذين سقطا، وأنظمة ليبيا واليمن والبحرين التي كانت بدأت تشهد تهديداً فعلياً.
استند الرجل الستيني على عبارة واحدة “لا رافد سياسي” للثورة على النظام السوري الذي “رغم عاهاته، هو آخر نظام يمثل إرادة نابعة من شعوب المنطقة”.
قال المناضل العتيق بثقة أن الربيع العربي، جوهره سياسي بامتياز، ومتصل مباشرة بالقضية الفلسطينية، التي ضجت ساحات مصر وتونس بها، فيما كان الإعلام العالمي والعربي مشغولاً بالتركيز على الأبعاد الإقتصادية والإجتماعية للثورات مؤكداً أن لا هوية سياسية لها.. قال ضاحكا “ثورة الكرامة تتناقض مع ثورة الخبز.. إنها ثورة كرامة.. ولا كرامة لأي عربي بدون فلسطين، وسوريا آخر دولة قادرة على الوقوف أمام ما يُرسم للمنطقة”.
الرجل كان محقاً بدرجة كبيرة.. فما حصل في بلدان الربيع العربي لم يشبه بشيء أحداث سوريا، إذا ما استثنينا ليبيا التي تشاركت مع سوريا بالتدخل الدولي السافر والتضليل الاعلامي الممنهج.. وكذلك فرض علم “للثورة”.
لكن الفارق بين ليبيا وسوريا، أن الأولى كانت دولة فاشلة، مثل الصومال، لكنها تقبع على ثروات نفطية وغازية هائلة أسالت لعاب الغرب، أما الثانية، التي تقع في قلب العالم، فلديها دولة حديدية بنفوذ اقليمي وتحالفات دولية، ووزن جيوسياسي شديد الأهمية جعلها هدفاً مشروعاً للغرب وبعض القوى الإقليمية في المنطقة، بلغة المصالح.
الفارق الجوهري، أن سوريا لم تكن تلعب وتهرج على مدى الأربعة عقود الماضية، على عكس نظام الراحل معمر القذافي الذي لم تخاطر روسيا والصين بـ”وضع بيضها بسلته”، فتركته يلقى مصيره المحتوم على وقع أنغام قنابل حلف “الناتو”.
غياب الرافد السياسي
مع استلام الرئيس الراحل حافظ الأسد للحكم عام ١٩٧٠، انهت سوريا مرحلة طويلة من اللاستقرار، ودخلت مرحلة تثبيت حكم الحزب الواحد، مثلها مثل معظم دول العالم في تلك الحقبة. وبالإضافة الى دور الأسد البارز على المستوى الإقليمي والدولي والصراع مع اسرائيل، والذي لا مجال للخوض به هنا، انصرف الأسد الى تثبيت أسس الدولة وعلمانية المجتمع وبناء اقتصاد قادر على توفير الاكتفاء الذاتي للبلاد، ما كان له ارتدادات سلبية هددت استمرارية حكمه في أكثر من مناسبة، ومن الداخل قبل الخارج. فسياسات الأسد الداخلية انتجت له أعداء من الطبقة الدينية والأثرياء وحتى من داخل النظام نفسه.. فخاض صراعات داخلية، عسكرية وأمنية، تمكن من عزلها عن التداخل مع الخارج، فوأدها بالحديد والنار و”الدواليب” وسط حد معقول من التفهم الشعبي. رسخ الأسد حكمه ومدد نفوذه الى لبنان المجاور، الذي كان مسرحاً للصراعات الإقليمية والدولية لفترة طويلة، وبذلك دخل الأسد لعبة الأمم، ففاوض وقايض، ولكنه لم يتخل عن القضية الأساس، فلسطين، قيد أنملة، ما ترك له رصيداً تاريخياً بعد رحيله عام ٢٠٠٠.
رحل الأسد قبل أن تبدأ مرحلة التغيّرات الكبرى في المنطقة والعالم التي تلت أحداث ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، تاركا خلفه دولة قوية مستقرة وممسوكة أمنياً، ووازنة إقليمياً ودولياً، ومكتفية ذاتياً، ومستقلة القرار، ولا ترزح تحت أعباء الديون، ولكنه ترك أيضاً شعباً افتقر الى الحداثة والتطور وحرية التعبير والتنوع السياسي في ظل أجهزة أمنية واسعة السلطات تمسك بيد من حديد مفاصل البلاد على كافة المستويات.
عام ٢٠٠٠، استلم الرئيس بشار الأسد الحكم من نائب والده عبدالحليم خدام، بسلاسة. ورغم قباحة مشهد التوريث في دولة يفترض أنها ذات نظام جمهوري، دان الحكم للأسد الإبن الذي سرعان ما بدأت تطورات المنطقة تنفجر بوجهه. فتشكلت أمام الرئيس الطبيب تحديات خارجية وداخلية، دفعت الكثيرين الى الاعتقاد أنه لن يكون قادراً على مواجهتها، خاصة وأنه يفتقر الى خبرة والده.
لكن الطبيب أثبت على مر السنوات قدرة عالية على مواجهة التحديات الخارجية، من احتلال افغانستان والعراق، الى حربي تموز وغزة، مروراً باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وغيرها من القضايا الإقليمية والدولية. اجتازت سوريا جميع هذه التحديات دون تقديم تنازلات في الثوابت، رغم سياسيات الترهيب والترغيب، من “ورقة كولن باول” بعد سقوط العراق، الى “محكمة الحريري” والعزلة الدولية وعودة الانفتاح الغربي، عبر البوابة الفرنسية، بكل ما حمله الأخير من وعود وردية واستثمارات خليجية.
خرج الأسد منتصراً من كافة هذه التحديات محافظاً على موقع سوريا في قلب محور ممانعة الهيمنة الغربية على المنطقة الأهم في العالم، وبذلك سد الطريق أمام أي نقمة شعبية على أسس سياسية أو إستراتيجية كما حدث في مصر وتونس. فلا يمكن لعاقل أن يتهم الرئيس الأسد بعد إنجازاته على المستوى الخارجي وعمله على صون المصالح والقضايا العربية بـ”العميل” أو “الخائن”، كما كان نصيب بن علي ومبارك ومعظم قادة البلاد العربية.
وعلى أرض الواقع لا تجد اتهامات البعض له بـ”خدمة إسرائيل” أي أرضية منطقية تدفع الى الاعتقاد بصدقية هذه الاتهامات، خاصة، في حال النظر الى سلوك الأنظمة العربية الأخرى التي تخدم إسرائيل بالسر والعلن، والتي ذهب بعضها الى الحديث علناً عن أن إيران هي العدو الحقيقي للأمة العربية.. وليس إسرائيل.
وأمام هذا الواقع، كان لا بد للطامحين (الداخليين والخارجيين) بإسقاط النظام السوري من الاعتماد على روافد أخرى، غير الرافد السياسي، لتصب في ساحات التظاهر في المدن السورية لتكرير مشهد التظاهرات الضخمة في مصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن، لتعطيل قدرة الدولة على الإمساك بالأرض تمهيداً لإسقاط رأس الهرم.
الروافد الأخرى التي سعى أعداء النظام السوري، لدفعها الى الساحات يمكن حصرها بـ : الرافد الاقتصادي (الفقراء والمتضررين)، الرافد الاجتماعي (المهمشين والطائفيين)، الرافد المطلبي (الحريات والإصلاحات والعدالة الاجتماعية.. ألخ)..
الاقتصاد وتزاوج الإنغلاق والانفتاح
سيف ذو حدين.. ولعبة القدر
انتهج الأسد الابن في العقد الأول من حكمه سياسة الانفتاح البطيئ، والتي زادت التحديات الخارجية من بطئها، ولكنها أدت الى تأثيرات واضحة في البنية الإقتصادية والإجتماعية، بدلت بشكل جذري صورة الشارع السوري في المدن الأساسية في البلاد، وسط نهضة سياحية واقتصادية وثقافية.
ففي النصف الثاني من العقد الماضي، شهدت سوريا نهضة في الحداثة والتطور، وبدأ الشعب السوري يلمس التغيرات، فنمت طبقة ميسورة جديدة في دمشق وحلب وحمص وغيرها بشكل سريع لتنافس الطبقة التقليدية، وفرضت تغييرات اجتماعية واقتصادية وانتشرت معها معالم الحداثة في المدن الكبرى (سيارات، هواتف، كومبيوترات، ملابس، إكسسوارات.. ألخ). كما ارتفعت القدرة الشرائية لسكان تلك المدن مع الارتفاع الهائل في أسعار العقارات، وفتح السوق للاستثمارات الخاصة، وتدفق السياح العرب والأجانب. وقد سجلت سوريا رقماً قياسياً في اجتذاب السياح في العام ٢٠١٠ (حوالي ٨,٥ مليون سائح)، أي قبل عام من اندلاع الأحداث.
هذه التغيرات نفّست الاحتقان لدى السوريين الذي خلفته سياسة الانغلاق التي انتهجها الأسد الأب على مدى ثلاثة عقود. فكان لذلك تأثير كبير في البنية النفسية للمجتمع السوري، الذي شهد التغيير بأم عينه، الأمر الذي أبعده عن حالة اليأس التي كان يعيشها المواطن المصري، مثلاً، عشية اندلاع “ثورة ٢٥ يناير”.
لكن الانفتاح سيف ذو حدين، حده الأول إيجابي، ولكن حده الثاني سلبي بامتياز، فبالإضافة الى زعزعته أسس المجتمع وتهديد استقراره فهو يصيب صميم مبدأ الاكتفاء الذاتي ويخلخله. الأمر الذي كان من المفترض أن يكون كفيلا بتدمير الاقتصاد السوري وتركيع النظام، خاصة مع توالي العقوبات الغربية والعربية ودعوات المعارضة السورية للاضراب العام.
لكن لا الناس في المدن الكبرى أضربت بما يكفي، ولا العقوبات الدولية، التي طالت كل القطاعات، حتى وسائل الإعلام السورية، أجدت نفعاً.
وهنا تكمن لعبة القدر.. فتزاوج ثلاثة عقود من سياسة الإنغلاق مع عقد من الإنفتاح البطيئ، لعب دوراً حاسماً في عدم انهيار الاقتصاد. فهذا التزاوج، غير المقصود أغلب الظن، أدى الى تنفيس الاحتقان الشعبي ودفع الناس الى عدم التجاوب مع دعوات “لا شيء نخسره”، دون أن يدخل المواطن السوري في حالة الرفاهية التي بحال فقدانها تدفع الى الفوضى. كما أن البنية الاقتصادية، بأوجهها المالية والزراعية والصناعية والاجتماعية، والتي رسخها الأسد الأب، لم تُحال بفعل الانفتاح الجزئي الى التقاعد بعد، فحمت بذلك النظام من أن يرفع العشرة أمام المتربصين به.
ولذلك انحصرت التحركات الشعبية التي جرى تسليحها، بشكل أساسي، في أوساط العاطلين عن العمل والفقراء في الأرياف والضواحي المهمشة، مما سهل أمر تطويقها وعزلها.
ورغم أن الاقتصاد السوري سجل خسائر فادحة خلال العام الماضي، وخسرت الليرة السورية نصف قيمتها، إلا أن الاقتصاد غير مهدد عملياً بالانهيار، كما أن لدى المصرف السوري المركزي احتياطاً كبيراً من العملات الأجنبية الصعبة، قادر من خلاله أن يتدخل لاستعادة قيمة الليرة. كما أن الحلفاء الدوليين والإقليميين الذين تأكدوا خلال الأزمة من قدرة النظام على الصمود، فرموا بثقلهم خلفه، لا شك أنهم سيقومون بعد انقشاعها على دعم الاستقرار الاقتصادي في سوريا وسيعملون على دفق الاستثمارات اليها.
سوسة الطائفية
الشارع السني أنقذ النظام
أكبر خرق حققه الطامحون لإسقاط النظام في سوريا كان على المستوى الإجتماعي.
فسوريا التي تعيش في منطقة استشرت فيها العقلية الطائفية بشكل ممنهج، لاسيما بعد غزو العراق عام ٢٠٠٣، ظلت بعيدة ومعزولة عن هذه الآفة بفعل سياسات النظام وممارساته من جهة (دعم المقاومات من أي خلفية كانت في العراق ولبنان وفلسطين..)، ووعي الشارع السوري الذي خبر عن قرب تبعات الاقتتال الطائفي في البلدان المحيطة، من جهة أخرى.
ولكن انتماء الرئيس بشار الأسد للطائفة العلوية، وهي ثاني أكبر طائفة في سوريا، بعد السنية التي تشكل حوالي ٧٥ بالمئة من سكان البلاد، شكل نافذة لأصحاب المصالح والعقول المريضة للنفاذ منها الى بعض شرائح المجتمع غير المحصنة لمحاولة تجييشها ورفد ساحات التظاهر بها، على الأرض وفي العالم الافتراضي عبر التحريض المبطن في الاعلام، والسافر في وسائل التواصل الاجتماعي عبر الانترنت.
وبالفعل، حقق هذا التوجه خرقاً في سوريا أقلق النظام وكبّله لعدة أشهر فاضطر الى “تطويل باله” كثيراً قبل الانقضاض على بعض المناطق التي سقطت من يد الدولة لأشهر، مثل حماة وبعض الأحياء ذات الكثافة السكانية السنية في حمص، إضافة الى قرى وبلدات في أرياف حمص وحماة وإدلب ودرعا ودمشق…
ومن المعروف أنه على المستوى العسكري كان بإمكان الجيش السوري فرض سيطرته على هذه المناطق بالقوة، ولكنه أراد توفير ثلاثة أمور قبل إعادتها الى كنف الدولة. أولاً، تأمين سقوط أقل عدد ممكن من القتلى قبل البدء بالعملية العسكرية، ثانياً، توفير المناخ الدولي المناسب، وثالثاً، والأهم بالنسبة للنظام، التأكد من عدم انفجار الأزمة طائفياً.
فلم تتحرك قوات النظام لاسترداد السيطرة على هذه المناطق قبل التأكد من نزع فتيل الأبعاد الطائفية للتحرك، حتى لا يُستغل ذلك في تجييش المدينتين الأساسيتين في البلاد، دمشق وحلب، اللتين تمثلان الثقل السكاني السني وعصب البلاد.
وكان للبعد “الإسلامي” الذي طبع بلاد الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا، وبروز التيارات الإسلامية، الدور الفاعل لدفع الأقليات في سوريا للتوجس من “الثورة” التي لم تقدم أي مؤشر على حمايتهم، فلا المسيحيون ولا العلويون ولا الدروز ولا الأكراد انضموا الى الحراك الشعبي. وما زاد من أزمة الطامحين لإسقاط النظام ارتفاع الخطاب الطائفي من قبل بعض الأجنحة المعارضة المدعومة من دول الخليج، مما كبح من التعاطف الشعبي مع التحركات لاسيما من الشارع السني المعتدل الذي يشكل وحده أغلبية السوريين (دمشق وحلب لم تنضما للتظاهرات). فأُطلقت شعارات طائفية مقيتة في حمص مثل “العلوية ع التابوت والمسيحية ع بيروت”، وارتُكبت مجازر وجرائم خطف وتعذيب بأبعاد طائفية، وعلا صوت المتشددين مثل الشيخ عدنان العرعور، الذي بات أحد رموز “الثورة”، رغم أن الإنسان العادي لا يحتاج كثيرا من العقل والمنطق ليعرف أن لا علاقة لهذا الرجل لا بالدين أو بالأخلاق أو بالمنطق. ولكن بقيت الأمور تحت السيطرة نوعاً ما، بفضل وعي السوريين وتماسك الدولة، ولم تنفع دعوات رجال الدين المتشددين في الخليج، لاسيما في السعودية وقطر، بصب الزيت على النار في تهييج الشارع السني طائفياً بفتاوى القتل والجهاد، ولم يصدق السوريون عشرات الأفلام التي بُثت لاستنهاض العصب الطائفي والتي تبين أن معظمها مفبرك، فلم ينجر الشارع السني للفتنة وحافظ على اعتداله وبقيت الدولة متماسكة بكل مؤسساتها لتحفظ بذك المجتمع من الانهيار.
ولم توفر الجهات الساعية لإسقاط النظام، اتهام النظام نفسه بالتحريض الطائفي، وذلك لتبرئ نفسها من تهمة الطائفية ومما يحصل من مجازر وارتكابات. وطبعاً، لا نحتاج الى كثير من العقل لتبيان سخافة هذا الإدعاء، فهل يمكن أن يحرض رأس النظام ٧٥ بالمئة من السكان ضده؟
وبهذا تبين، بوضوح، أن الشارع السني المعتدل له الفضل الأول والأهم في عدم سقوط النظام. لكن خطورة الخرق الذي حققه الطامحون بإسقاط الأسد، هي استحضار الطائفية الى الخطاب اليومي في سوريا، وإذا لم تقم الدولة السورية، مع انتهاء الأزمة، بالإجراءات الملائمة للقضاء على سوسة الطائفية ومنعها من نخر الجسم السوري، سرعان ما ستتفشى هذه الحالة المرضية وسيصعب إستئصالها كما هو الحال في لبنان مثلا، طالما أن هناك جهات إقليمية ودولية لن توفر الغالي والرخيص في استغلال أي حادثة أو مناسبة لضرب النسيج السوري المتنوع وتفتيته وصولاً الى إسقاط الدولة.
إصلاحات “في حال تطبيقها”
في بادئ الأحداث، قيل أن التظاهرات كانت من أجل الإصلاح، لا إسقاط النظام. طبعاً هذه المقولة بعيدة جداً عن الحقيقة.
أدرك النظام السوري ذلك منذ البداية، وعلم أنه مهما قدم من إصلاحات لن تتوقف “الثورة”، التي انضم لها حلفاء كانوا من المقربين لسوريا حينها، مثل قطر وتركيا، وكشر الغرب وأذرعه في المنطقة عن أنيابهم منتفضين لحقوق المواطن السوري، مما أكد للأسد أنه موسم الغدر بامتياز.
وبدراسة سريعة لمسار ثورتي تونس ومصر، أدرك الأسد أن التنازل السريع لمطالب الشارع، سيكون مدمراً وسيدفع النظام نفسه الى التفسخ والانشقاقات، فلا تعود بذلك قناة “الجزيرة” قادرة على أن “تلحّق” على تلقي مكالمات السفراء والمسؤولين السوريين المنشقين، كما كان يحصل حينها في ليبيا واليمن، وتمتلئ الساحات بالمتظاهرين فتفقد الدولة زمام الأمور، مثلما حصل في مصر، حيث أغلقت البنوك وفّرغت السجون وانسحب الأمن من الشوارع وتحولت دبابات الجيش الى ألواح للمتظاهرين لرسم الشعارات الثورية. وأمام هذا يتخلى حلفاء الخارج عن النظام فيتحول الى مجرد بند من صفقة أممية.. هذا كله لم يحدث في سوريا.
فالأسد لم يعط مجالاً لأركان النظام وأجهزته وللشعب للشك بأنه يشعر بالضعف أو أنه سيقدم تنازلات حقيقية، رغم إدراكه لضرورة الإصلاح.
فالأسد، حتى اليوم، لم يلق خطاب استجداء، كخطاب “فهمتكم” لبن علي، وخطاب “أفنيت عمري” لحسني مبارك. ولكن رغم ذلك، وبعد عام على إنطلاق الأحداث، أصبح للنظام السوري سلة متكاملة من الاصلاحات (أبرزها إقرار دستور جديد)، التي، “في حال تطبيقها”، ستجعل من سوريا نموذجاً للدولة الديمقراطية في العالم العربي.
وكلمة السر هنا، التي مكنت الأسد من اجتياز الأزمة، هي: “في حال تطبيقها”، التي حافظت على تماسك النظام بشكله الحالي، مع فتح آفاق لأعمدته وأسسه بأن دورهم لن ينتهي في حال طُبقت الإصلاحات، كما انها أخمدت جزءاً كبيراً من غضب الشارع السوري، لاسيما وأن “الثورة”، ومن يقف وراءها، لم تقدم أي بديل، وكما يقول المواطن العادي “الخازوق اللي بتعرفه أحسن من يلي ما بتعرفه”، و”لحاق الكذاب ع باب الدار”..
من غير المعروف إن كانت إصلاحات الأسد وما حملته من توسيع لهامش الحريات وإقرار النظام الانتخابي التعددي ستصبح واقعية، لكنها، بلا شك، قدمت ما يكفي، حتى الآن أقله، للداعين للإصلاح ليقفوا الى جانب الاستقرار الذي يمثله النظام، ما ساهم في تجفيف رافد مهم لما كان يُفترض أن يكون “ثورة سورية”.
تظاهرات محدودة
حرية.. حرية.. صف.. صف
للأسباب والظروف التي ذكرناها، وأسباب ظرفية أخرى، جففت روافد التظاهرات، فانحصرت بمعظمها في حارة هنا أو ضيعة هناك دون أن تقدم رؤية واضحة تجتذب المواطن العادي.. ولم تخرج شعاراتها، عن كونها عاطفية وساذجة مثل “حرية.. حرية..” التي يستحيل أن تتوالف مع التيارات الإسلامية الأصولية التي تقف خلف التظاهرات، لاسيما في مجتمعات تعددية مثل سوريا، وشعار “ما إلنا غيرك يا الله”، وهو شعار استعطافي لا يخدع الكثيرين، خاصة اذا ما نظرنا الى ما قُدم للثوار من واشنطن الى الدوحة، مرورا بعواصم أوروبا وتركيا وتل أبيب وآل سعودية..
طبعاً، هناك من يقول أن القمع الأمني هو ما منع تشكيل تظاهرات ضخمة، وهذا، طبعاً، غير منطقي إطلاقاً.
ففي ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١، أطلق الأمن المركزي الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الدخان على المتظاهرين في ميدان التحرير وقتل وجرح العشرات، وبعد ثلاثة أيام تضاعفت أعداد المتظاهرين في “جمعة الغضب”، التي مهدت لإسقاط مبارك. وفي البحرين دخلت الدبابات لتقمع أكبر انتفاضة شعبية (من حيث عدد المتظاهرين بالمقارنة مع عدد السكان) ولا يزال مئات آلاف البحرينيين يتظاهرون رغم القتل والتنكيل.. وأرجو ألا يقنعنا أحد بأن معمر القذافي كان حنوناً على شعبه.
سؤال بسيط: كيف يملك المتظاهرون الوقت للاصطفاف، صفا صفا، وتشغيل مكبرات الصوت ليغنوا ويرقصوا في تظاهراتهم.. أهكذا تكون التظاهرات العفوية التي تنتظر من يقمعها؟ نشكّ بذلك!
الفشل
تعددت الأسباب والفشل واحد
ليست قدرة النظام على تجفيف روافد الاحتجاجات الشعبية، وحدها المسؤولة عن إفشالها، بل هناك كم هائل من الأخطاء المميتة التي ارتكبها السوريون الراغبون بإسقاط النظام ساهمت بالقضاء على ثورتهم. لعل أبرزها:
أولا، الفشل في اجتذاب شخصيات سورية وازنة، على أي مستوى، ذات تأثير على الرأي العام. لربما كانت المغنية “أصالة” أهم شخصية مؤثرة في طول المعارضة وعرضها، إذا ما استثني الإخوان المسلمون الذين يخجلون بأنفسهم لدرجة دفعهم لشخص يحمل الجنسية الفرنسية كبرهان غليون الى الواجهة. وأمام هذا القحط اضطر “الثوار” الى اللعب بمن حضر، فظهرت وجوه سورية، تفتقد الى المصداقية والكاريزما، أثرت سلباً على الثورة مثل العرعور، ورضوان زيادة، وعمار القربي، ومحي الدين اللاذقاني وبسمة قضماني.. وغيرهم كثيرين. وحتى المعارضين المعروفين، مثل هيثم مناع وميشيل كيلو وحسين عبدالعظيم، وحتى هيثم المالح، نأوا بأنفسهم في أكثر من مناسبة عن كثير من توجهات “الثورة”، فشكلوا عبئاً إضافياً عليها، تحت عنوان انقسام المعارضة، الذي يعتبره البعض السبب الرئيسي لهزيمة “الثورة”.
ثانياً، مع فشل الراغبين بإسقاط النظام في تحقيق تحرك شعبي جارف وسريع يقضي على النظام، بدأ هؤلاء مع مرور أشهر الأزمة يلجأون الى عمليات التضليل والتضخيم والكذب العلني، في محاولات يائسة لإسقاطه. وهذا ما ساهم في فقدان المعارضة للمصداقية وانفضاض الناس، في سوريا وخارجها، عن “الثورة” التي نُزّل باسمها فيديوهات على “يوتيوب” قد تفوق عدداً الفيديوهات الإباحية على الانترنت!. واللافت أن معظمها مفبرك أو مثير للسخرية. ولكن اللافت أكثر أن قنوات كبرى مثل “الجزيرة” و”العربية” والـ”بي بي سي” وغيرها المئات من القنوات والصحف والمواقع الإخبارية العالمية، قامت بتحضير بعضها وبعرضها وتبنيها، رغم أن معظمها لا يحتاج كثير التمحيص ليتبين زيفه أو عدم أهميته. ولكن هذه القنوات، وعلى رأسها “الجزيرة”، التي عانت من الانشقاقات أكثر من النظام السوري نفسه وأصبحت شبح القناة نفسها قبل عام، تعلم منذ أشهر عدة أنها فقدت القدرة على التأثير على الشارع السوري، وهي تدرك أن حملاتها الإعلامية هي فقط لاستكمال عزل النظام خارجياً.
ثالثاً، الارتماء بأحضان الخارج، بدوره، لعب دوراً في إبعاد الشارع السوري عن المعارضة، وهذا خطأ كبير جاء نتيجة غياب قيادة حقيقية للثورة قادرة على الأقل أن توحي باستقلاليتها.
رابعاً، اعتماد الخطاب العاطفي والطائفي واستغفال عقول الناس بخطاب دعائي رخيص اعتمده المعارضون على القنوات التلفزيونية وصفحات الانترنت، الأمر الذي كان له ارتداد سلبي قاتل منع انضمام نخب حقيقية لصفوف الثورة، فكانت تزج دائما عبارات مثل حليب الأطفال واغتصاب النساء وتعذيب الأطفال، إضافة الى التلميح والتصريح الطائفي، وأدى هذا النهج الى ضعف كبير في تماسك الخطاب السياسي ما أفضى بطبيعة الحال الى إثارة شكوك الشارع حول “الثورة” ومن يقف خلفها..
خامساً، والأهم، الانتقال السريع لاستخدام السلاح بعد الفشل في حشد التظاهرات السلمية.. وهذا ما أصاب الثورة بمقتل.
وفوق كل هذا، يتجسد فشل المعارضين الجوهري، ومَن خلفهم من انتحاريي السياسة، بالانفصال عن الواقع وتفضيل العيش في العالم الافتراضي على صفحات “الفيسبوك” أو على شريط الأخبار العاجلة على “الجزيرة” و”العربية” (الذي هو أشبه بعدادات الموت، التي تقدمها إحصائيات مكتب فلافل في لندن يسمى “المرصد السوري” أو ما شابهه في قطر أو السويد أو ألمانيا..).
ورغم وضوح حقيقة مشهد فشل “الثورة”، لا يزال المعارضون يتحفوننا بفنون التلطي خلف الأصابع، فهم لا يريدون الاعتراف أن النظام له شعبية واسعة، فيعرفون بذلك حجمهم الطبيعي ليتمكنوا من النزول الى أرض الواقع والنضال من أجل حقوق الشعب، إن كان ذلك في حساباتهم أصلا. بل يفضل هؤلاء، مثلا، اتهام النظام السوري بتفجير المقرات الأمنية في حلب ودمشق، وجمع التظاهرات الضخمة المؤيدة للنظام بالقوة، ويتهمون كل مؤيد للنظام بـ”الشبيح” في مؤشر دال على توجه إقصائي فاضح، بل يتهمون كل من يخالف التوجه العام “للثورة” بالجاسوس أو العوايني.. تحت عنوان “لا صوت يعلو فوق صوت الثورة”.
قوة النظام
الجيش.. حامي الديار والدولة
استدعي أحد أصحاب شركات تأجير السيارات في دمشق، في نيسان ٢٠١١، الى تحقيق سريع بعد استدعائه لمكتب المختار. فوجد بانتظاره عنصرين أمنيين وضابطا يحمل مجموعة صور لزبون استأجر سيارة. تبين أن الزبون ينشط في “الثورة”، وأن لا علاقة لصاحب الشركة به.. فطُلب من الأخير أن لا يثير شكوك الزبون، ويتعامل معه وكأن شيئاً لم يحصل.
بقي صاحب الشركة لأشهر يتلقى الأموال، وبالعملة الصعبة، لقاء تأجير السيارة، وبقي المشتبه به طليقاً لحين اتخاذ قرار توقيفه..
هذه الحادثة واحدة من عدة حالات مشابهة، تبرز بوضوح “البرودة” التي تعاطى بها الأمن السوري مع “الثوار” في الداخل، فقد اعتمدت الأجهزة الأمنية سياسة النفس الطويل في التعاطي مع الأحداث لتحدد حجم ما تواجهه ومدى توسع شبكاته، منعا للانجرار الى أفخاخ تزيد من ورطة النظام.
هذه السياسة مكنت الأجهزة الأمنية من احتواء جزء من المواجهة، لكنها أثرت سلباً على هيبتها، ولكن بما أن هيبة الأجهزة الأمنية تشكل الجزء الأكبر من فعاليتها، أدى تراجع هذه الهيبة في نظر المواطن العادي الى تشجيع المعارضين في التمادي بتجاوز المحظورات، من تظاهر وحرق وتهريب وسرقات ومخالفات وصولا الى القتل والخطف. وسرعان ما تبين للنظام أن الأجهزة الأمنية غير قادرة وحدها على السيطرة على الأرض، فوجدت القيادة نفسها مضطرة للاستعانة بالجيش لمنع المزيد من الانفلات..
هنا اتخذ الرئيس بشار الأسد قرار تحريك الجيش دون تردد رغم مراهنة خصومه على عكس ذلك، لاسيما بعد انقلاب الجيشين التونسي والمصري على رئيسي البلدين ورفضهما لمواجهة المحتجين.
وكان لهذا القرار المبني على الثقة العالية بالمؤسسة العسكرية أول مسمار يضرب بنعش “الثورة”، لاسيما مع انتشار وحدات الجيش على الحدود مع الأردن وتطهير درعا من المجموعات المسلحة، ولاحقاً الإنزال الجوي على الحدود التركية، الذي كان بمثابة نقطة تحول أجهضت عملياً خطة المنطقة العازلة في إدلب ومنع تدفق اللاجئين الى تركيا التي كانت تسن أسنانها لاستقبال مئات الاف اللاجئين فوصلها ما لا يزيد عن ٧ آلاف (أكبر التقديرات)، ما أثار جنون رجب طيب أردوغان الذي انتقد حينها بشدة “استخدام الأسد للطائرات ضد شعبه”.
ومع حلول نهاية العام ٢٠١١ كان الجيش السوري، الذي أحبط محاولات تفتيته، قد تمكن من استعادة السيطرة على عدة قرى ومدن خرجت عن سيطرة الدولة في محافظات حماة ودرعا ودير الزور وحمص وإدلب، وذلك وسط تأييد شعبي كبير بعدما ضاق الناس ذرعا بالفوضى التي لم يعتدها السوريون منذ عقود، ليبدأ بعد ذلك الجيش مرحلة “الحسم الميداني” الذي بدأ من الزبداني في ريف دمشق. وشكل سقوط “بابا عمرو” في حمص في يد الجيش بداية النهاية لأي طموح بإسقاط النظام بالقوة، ممهدا لاستعادة السيطرة على كافة المناطق والأحياء الخارجة عن القانون، وما كانت زيارة الرئيس السوري الأخيرة الى ”بابا عمرو” إلا لتؤكد عن ثقة عالية بقدرة الدولة على إعادة فرض سلطتها على كافة أراضيها.
فقد الجيش وأجهزة الأمن السورية، خلال عام الأزمة، ما لا يقل عن ألفي عنصر وضابط، ما أكسب القوى المسلحة تعاطفاً شعبياً كبيراً في الشارع السوري، المعروف باحترامه العميق والتاريخي لها.
وهنا لا بد من التأكيد على الفشل الذريع للماكينة الإعلامية المعادية للنظام، في تشويه صورة الجيش العربي السوري، رغم الأوصاف الكاريكاتيرية التي حاولت إلباسه إياه في محاولات متكررة وفاشلة لتفتيته، مثل “كتائب الأسد”، أو “جيش الشبيحة”، أو “الجيش النظامي”..
ولكن يجدر أيضاً التنبيه إلى أن وسائل الإعلام السورية وما يسمى بالجيش السوري الالكتروني.. شكلت قوة مفاجئة أسهمت في تحجيم قدرة الإعلام الخارجي على قيادة الوعي السوري، وذلك رغم الإمكانيات المتواضعة مقارنة بـ”أرباب” الإعلام العربي والعالمي. فمثلاً، تحولت قناة “الدنيا” المتواضعة، في ليلة وضحاها، الى كابوس يؤرق “الجزيرة” و”العربية” وغيرها..
الدور الدولي
ماذا لو تضعضع النظام؟
على رغم أن الدور الدولي في الأزمة السورية، يظهر للكثيرين على أنه أساس صمود النظام السوري، إلا أن ذلك يجانب الواقع. فدعم الغرب والبترودولار و”الإسلام السياسي” للثورة لا يكفي لإسقاط النظام من الداخل.. كما أن دعم روسيا والصين وإيران للنظام لا يضمن صموده. فلو اهتز النظام السوري لفقد حلفاءه الدوليين والإقليميين واحداً تلو الآخر، تماماً كما حصل مع بن علي ومبارك والقذافي وصالح، ولأصبح ضرب سوريا عسكرياً أمراً مباحاً ولمِا استخدم “الفيتو المزدوج” مرتين في مجلس الأمن ليعلن عن بداية حقبة عالمية جديدة، متعددة الأقطاب، ولدت في حارة سورية صغيرة في دمشق أو حلب أو حمص…
Leave a Reply